لقد كانت كذبة قبر النّظام القديم من أكبر الأكاذيب التي تمّ ترويجها بين الناس منذ 2011 ذلك أنّ النّظام القديم ليس جهازا حزبيا فاسدا فحسب تمّ حلّه فانتهى، بل هو عقل تسلّطيّ قمعيّ يشتغل دون توقّف ضدّ العقل الدّيمقراطيّ الجديد والنّاشئ ويرسم استراتيجيّات في اتّجاه البقاء والتمكّن ثانية من خلال تحويل وجهة الصّراع نحو عدوّ جديد ودفع الجميع عبر توظيف الإرهاب والاغتيالات إلى شرك معاداة الديمقراطيّة باعتبارها مجالا شاسعا للفوضى والإرهاب والانهيار التام.
هذا العقل التسلّطيّ المتغلغل في شرايين الدولة وفي الدّم الجماعي حكما ومعارضة لم تنجح الديمقراطيّة الواهنة والمحاصرة والتي ظلّت تصارع من أجل ألّا تنطفئ جذوتها في أن تدفعه إلى التحلّل بعد قبر الحزب الذي يمثّله. بل انبعث من ركامه بفضل شراب السّحرة ليتشكّل في أجهزة ورؤوس وأحزاب ومنظّمات وهيئات الجامع بينها هدم كلّ إمكانيّة للالتقاء حول ديمقراطيّة اجتماعيّة وفيّة لمسار 17 / 14 ترسي إصلاحات عميقة ونوعيّة تغيّر الواقع وكان البدء بالفتك بالديمقراطيّة التمثيليّة وبمؤسّساتها السبيل الوحيد لبناء هذا المشترك. وكان أهمّ معول للفتك هو الكذب باستمرار فنحن: " لم نكذب قط بالقدر الذي نكذبه اليوم.
كما أننا لم نكذب على هذا النحو السّفيه والنّسقي والرّاسخ كما نكذب اليوم". إنّه تاريخ الكذب السياسي الصادر عن عقل شموليّ تسلّطيّ يأبى الانسحاب وهو تاريخ نحتاج الاشتغال عليه لنفهم لم وصلنا إلى هنا تماما كما اشتغلت حنا أرندت على تاريخ الكذب في الأنظمة الشّمولية.
كيف وصلنا إلى هنا وكيف ظلّ هذا العقل التسلّطيّ يوجّه الجميع حتّى من هم في الحكم و"المعارضة" فيردّدون ما تنتجه البروباغاندا من تزوير وتزييف بوثوقيّة عجيبة ويبنون عليه مصائر وجودنا؟
إنّ الروح النوفمبريّة المنتشرة منذ 25 جويلية وما يرافقها من تطبيل وتزمير ورقص ومناشدات ومراودات للقضاء على الخصوم ومديح وصور مرفوعة وأسماء مهدور دمها وتخوين ودعوة إلى السّحل والدّماء يؤكّد أنّ " المقبور" يتحرّك بيننا بنفس نوازعه الاستئصالية ونفس تحالفاته القديمة المتجدّدة ونفس نواياه للاستحواذ على كلّ شيء ونفس آلياته وأنّه دافعٌ إلى 25 راكبٌ عليها وأنّه ككائن شبحيّ لا تُرى منه سوى الواجهة المخاتلة قادر على الإجهاض على آخر نفس للحريّات والعودة إلى الترهيب حتى تحت مسمّى "الثورة المجيدة" والدّفاع عن الفقراء من مصاصي الدماء. هكذا يُتلف الكذبُ وثائق الواقع ومستنداته الأصلية كما تقول حنا أرندت.
إنّه العقل التسلطي. مقبور حيّ. له أكثر من ذراع وأكثر من قدرة على " نقض الواقع والأرشيفات الأصلية " بلغة جاك دريدا وبناء " واقع " مزوّر في المخيال الجماعي. يتجوّل في الشّوارع ويقود المسيرات ويرفع الشعارات ويوجّه الغوغاء ويُحيي عادات الشُّعب ويهدّد الديمقراطيين الحقيقيين ويتخلّل نصوص "المثقّفين" المناشِدة وكتابات المحللين الممجّدة، وخطاباتهم، وأمنيات الجهلة ،والمخرّبين.
ولا يمكن مقارعته إلا بالعقل الديمقراطيّ الحقيقي الذي لم تصبه لوثة التسلّط ولا الرغبة الدمويّة في الإلغاء، وهو الأقدر على إذابة كلّ ما يراكمه التسلّط من فساد وأحقاد واحتراب.
عقل تمثّله أقليّة، وسيصيرون وسط هذه الانجرافات أقلّ..
ولكنّهم كحجر الوادي..