لا ريب أنّنا في عمقنا الأنطولوجي الكائن المعذّب، فالعذاب هو قدرنا على الأرض، لذلك كان الأدب رديف الألم، مقاومة وتجاوزا. ولأن لا شيء يخيف الإنسان في وجوده قدر العذاب والألم، فإنّ الأنظمة الشّموليّة في سعيها الأبديّ إلى الهيمنة على الإنسان، وفي التجائها إلى العنف السّادي لتحويله إلى كتلة لحم عفنة ، حتّى تستطيع البقاء والتمدّد، اتّخذت التّعذيب بما هو التكثيف المرعب للألم ، أداة للتحكّم فيه وتجريده من إنسانيّته ومن وعيه العميق. وقد تفنّنت هذه الأنظمة على امتداد التّاريخ في ابتكار آليات التّعذيب، والبحث عن الأكثر ألما دون موت من أجل تكثيف العذاب وتجديده.
فالتّعذيب هو ملامسة الموت والعودة إلى الحياة من أجل ملامسة أخرى. إنّه البقاء على حدود الموت، حيث الرّعب الأبديّ، وهو فعل لا يأتيه سوى الإنسان / الجلّاد. إنّه الكائن الوحيد على الأرض الذي يتفنّن في القتل ويتلذّذ ذلك، فرادة تدفعنا إلى أشدّ الأسئلة ضراوة حول ماهيّة الإنسان وسؤال الشرّ فيه. هندسة الشرّ كانت دوما مرتبطة بالإنسان ومن صنعه، وكان التّعذيب من أجلى التعبيرات على قدرته على نفي ذاته ونفي الآخر، من أجل السّقوط الكليّ في التوحّش.
وبما أنّ " الحياة المبتلاة بالعناء هي حياة تروى " كما يرى بول ريكور في حديثه عن السّرد بما هو إدراك لحقيقة العذاب، فإنّ التعذيب باعتباره تجربة معاناة كان مادّة خصبة للأدب. لقد وجد الأدباء في التعذيب تيمة جديدة ارتبطت بنشأة أنظمة شموليّة حديثة، وأداة لإنتاج المعرفة بالإنسان مُعَذِّبًا ومُعَذَبًا. فتجربة العذاب لا تتعلّق فحسب بالضحيّة، بل بالجلّاد أيضا.
فكيف هو الإنسان الذي يعذِّب؟ هل هو " شرّير" بطبعه، أم أنّ الشرّ يبدأ صغيرا خجولا متردّدا ثمّ يكبر تدريجيّا مع ممارسة التّعذيب ليصبح هويّة المعذِّب؟ هويّة جديدة يجد فيها تحقّقه: أنا أعذّب إذن أنا موجود. هكذا كان التعذيب في روايتي سوبرنوفا عربيّة هويّة الجلّاد الذي لا يستطيع العيش دون تعذيب، وحين وجد نفسه في الطّريق مع البشر المهجّرين من الأوطان العربيّة المعذَّبة اختلّ توازنه وظلّ يبحث عن هويّة جديدة له، هويّة استعصى عليه إيجادها بما أنّه ما إن بدأ يستعيد إنسانيته من خلال التّجارب العميقة في الطّريق وخاصّة تجربة الحبّ، حتّى حدث النّكوص في أوّل اختبار له.
هنا يمكن الحديث عن " موت قلب" وعن الشرّ طبيعة ثانية ناتجة عن تاريخ يمرّ به مرتكب التعذيب، وعن بُنى نفسيّة وثقافيّة وسياسيّة تهيّء ل"موت القلب". وهنا تُحدّثنا حنة آرنت عن تفاهة الشرّ، ذلك الشرّ الذي يأتي نتيجة غياب التّفكير الشّخصيّ، ونتيجة الرّغبة الأنانية في نيل الامتياز أو في إرضاء البيروقراطية الإدارية من أجل احتلال موقع أفضل فيها. لقد كان آيخمان الذي حضرت حنة آرندت محاكمته أفضل تجسيد للموظّف الذي تقوده مطامعه الشخصية إلى صناعة جثث بشريّة حيّة، ولكنّ آيخمان كانت تقوده أيضا الثقة العمياء بسلطة معصومة، لقد كان مؤمنا بالفوهرر وبفكرة مقدّسة هي عظمة العرق الألماني. إنّها الفكرة المقدّسة التي تحوّل البعض إلى آلة فرم أو طاحونة لجرش الأجساد.
وفي الأدب كان لكلّ المعذِّبين " فوهرر خاصّ بهم، وفكرة مقدّسة يرتكب باسمها أفظع الجرائم، فكرة كبيرة قد تكون الأمّة، أو الوطن، أو الدين، أو ثورة ثقافية، أو تصحيح مسار، وتحت هذه الفكرة الكبيرة وباسمها ترتكب الكبائر، وهو ما يذكّرنا بمقولة شهيرة للأديب الروسي غوغول: " ما أكثر اللّاإنسانيّ في الإنسان ". هكذا هو، فحتى وهو يرفع الأفكار العظيمة التي توهم باكتمال إنسانيته، يسقط بسرعة في خيبة اللاإنساني وكأنّ الحضارة لا تكتمل إلا على هذا النحو.
في روايته " جسر على نهر درينا " للروائي اليوغسلافي ايفو اندريتش التي حصل على إثرها على جائزة نوبل للأدب، وظف الكاتب أسطورة شعبية رائجة هي حكاية الأم التي دفنت حيّة في دعامة جسر فوق نهر قيل إنّه لن يكتمل بناؤه إلا بضحيّة بشرية، وتُرِك ثديا الأمّ عاريين حتى يتمكّن طفلاها من رضع حليبها ليظلّا على قيد الحياة، وحين كبر الطفلان وكفّا عن الرضاعة جفّ الثديان من تلقاء نفسيهما. هكذا يكشف ايفو أوهام حضارة تبحث عن اكتمالها المخاتل فوق الأجساد المعتقلة والمسيّجة بالحديد والاسمنت. فهل نحتاج فعلا كلّ هذا التعذيب حتّى تكتمل الفكرة في الواقع؟ أم أنّ هذا ما توهمنا به الأنظمة الشّموليّة حين تبني مجدها على ركام الجماجم وآلام البشر، مروّجة لاعتقاد بأنّ تحقيق المجد يمرّ حتما عبر جسر العنف والتّنكيل، وقناع الفكرة العظيمة؟
يلحّ علينا هنا السّؤال الأخلاقي والقيمي حول هذا الإجرام " القانوني" الذي يجرّد المجرم والضحيّة معا من الانتماء للإنسانيّة، وهو السّؤال الذي يطرحه الأدب عبر تشكيل الكائن المعذِّب فنيّا، فيراوح بين الواقعي والمتخيّل من أجل بناء الوحش المجرَّد من آدميته ومن ترسانة القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة التي تفصل الإنساني عن اللّاإنساني. التعذيب لدى جلّادي رجب بطل شرق المتوسّط لعبد الرّحمان منيف، أو في رواية حذاء فيلليني للروائي وحيد الطويلة تجسيد لهذا العراء القيمي، والنّكوص إلى لحظة ما قبل الكرامة وما قبل الحرية وما قبل الإنسان. إنّهم التجسيد الرّوائي لفشل هذه الأنظمة في إقناع الشّعوب بالمشاريع الكبرى التي وعدت بها، والسّقوط السّريع في جحيم الخواء.
السّؤال الأخلاقي يتجلّى أيضا من خلال صورة الكائن المعذَّب، صورة السّجين أو المعتقَل أو المختطَف الذي يتمّ التّنكيل به، وتفنّن الأدباء في تصوير طرق تعذيبه تفنّنا يحيلنا على ما يمكن أن نسمّيه " بلاغة التّعذيب " رديف بلاغة القبح وغيرها، بلاغةً تُشكِّل عوالم التعذيب من سديم الواقع، وتنقل الوقائع من الواقع إلى النصّ، وبقوّتها السّرديّة تستولي على مناطق الانفعال لدى الضحيّة، وتحوّلها إلى طاقة تعبيريّة هائلة غايتها الثّأر للإنسان المعذَّب، ومحاولة لملمة أشلائه، إنّها سرديّة معذِّبة بدورها، ولكنّها سرديّة مقاومة بلغة بول ريكور.
هنا تتحوّل " بلاغة التعذيب " إلى سلطة أدبيّة ترتقي بالتّعذيب من حقائق التاريخ إلى حقائق الأدب، فتعانق عبر السّرد الأدبي الكونيَّ، ذلك أنّ تجربة التّعذيب تظلّ فاقدة للشّكل بكماء وخرساء حتّى تُكتَب، آنذاك فقط تصبح تجربة ضاجّة بالمعنى، إنّها صرخة أخرى للكائن المعذَّب تشبه صرخته داخل القبو، ولكنّها أدبيّا صرخة يبلغ مداها التّخوم ويهتزّ لها الضّمير العالمي، بل إنّ بعض الكتابات تساعد على محو جزئيّ لتجربة التعذيب حين تصبح الكتابة تخلّصا من التّاريخ عبر النّبش في قبو الذّات وإخراج المكتوم والمكبوت والمخيف منه، والإلقاء به خارجا. إنّها كيمياء الأدب التي تحوّل تجربة العذاب إلى حكمة، تماما كما يتحوّل الوحل إلى ذهب في اعتقاد الكيميائيين.
إنّ السّرد الأدبي بناء جماليّ لهذه العوالم العفنة ومحو لها أيضا. وعبر جدل الكتابة والمحو، يعيد الكاتب إنتاج التجربة إنتاجا غايته لا فقط تحرير ذاته المعتقلة داخل لحظة التّعذيب، وإنّما أيضا تحرير الإنسان / القارئ المعتقل داخل تاريخ التعذيب حتّى أنّه غير قادر على تصوّر وجوده دونه.
كتابة التعذيب أدبيّا، هي إذن كتابة ما لا يصدّق من لامعقول سياسي واجتماعي أنتجته أنظمة شموليّة في سياقات تاريخية مختلفة، وهي كتابة تدعونا إلى مراجعة مسلّماتنا وتصديق ما لا يصدّق. نعم هناك فظائع تفوق العقل، ولا بدّ من حكيها وإعادة إنتاجها أدبيّا حتّى نعيد إدراك ذواتنا ووجودنا في ضوئها، وحتّى نقدر على رسم أفق للخلاص: بناء الممكن الإنساني المشترك لحياة نتحرّر فيها من الألم عبر براعة الكتابة.
ولكن، وفي زمن سيولة الأشياء بلغة زيجمونت باومان، فإنّ الحداثة " السّائلة نجحت في إعادة تدوير التعذيب وبيعه للبشر مجدّدا في أشكال جديدة، لقد تعدّد الجلّاد وسال، سال مع كلّ شيء حتّى أنّنا لم نعد نقدر على تحديده ومواجهته. إنّه أيضا زمن سيولة التّعذيب الذي لم يعد يحمل شكله التّقليدي: جلّاد يعلّق ضحيّته من قدميها أو يقلع أظافرها أو يصعقها بالكهرباء، بل هو تعذيب جماعيّ يوميّ قد يتجسّد في شعبويّة مجنونة بخطاب ركيك أو عبث عارم يقلب كلّ شيء أو حمق وتفاهة يوميّة تعذِّب قطرة قطرة كحنفيّة معطّبة في سجن قديم، أو خواء ممتدّ كمعتقل في صحراء، وعصاب جماعيّ وسخف عارم يقضي على كلّ حلم بحياة تشبه الحياة.