حين أبدع اليوناني فن المسرح، رأى بأن الحياة ليست سوى تراجيديا وكوميديا، وفي ضوء هذه الرؤية قسموا المسرح المعبر عن الحياة إلى مسرح كوميدي هدفه الإضحاك، وبعث السرور في النفس، ومسرح تراجيدي حيث تنتهي المأساة بموت البطل.
لكنهم لم يلتفتوا إلى مسرح الوقاحة وموت الحياء في الواقع، حيث لا يقوم بطل بمهمة الإضحاك، ولا آخر بمهمة الإبكاء، بل إن بطل موت الحياء الواقعي ينتج القرف والتقزز من وجود أبطال فاقدي الحياء ومكثفي الوقاحة فيها.
يحتل مفهوم الحياء مكانة مركزية في الحياة المعشرية والبشرية. بل قل لا تقوم حياة اجتماعية–إنسانية دون حضور الحياء. ولأن العرب لم يتخيلوا وجود شخص خالٍ من الحياء فإنهم أطلقوا على من يخرق الناموس صفة: قليل الحياء.
هو حضور سلطة الآخر أي المجتمع بوصفها سلطة أخلاقية والاعتراف بهذه السلطة.
ليس الحياء قانوناً وضعياً مكتوباً، وإن كان خارقه يتعرض لعقوبة وضعية أو اجتماعية. إنه قانون اجتماعي يحافظ على مبدأ المعقولية في الحياة. والسلطة السياسية بما أنها تملك من القوة بما يمكنها من ممارسة الحكم، لا يستقيم سلوكها دون قيمة الحياء إطلاقاً.
ولمّا كان من حسن حظ البشرية أن وصلت، في أنحاء كثيرة منها، إلى إنتاج السلطة عن طريق العقد الاجتماعي، الديمقراطية فإنها قد أنتجت سلطة تتميز بالحياء، لأن الآخر الذي أنتجها يمتلك حق إزالتها ومحاكمتها إن هي خرقت قواعد الحياء. لأن خرق قواعد الحياء اعتداء صارخ على المجتمع (الآخر).
أما السلطة المستبدة وهي المحتكرة للقوة وناتجة عن عصبية منتصرة بالقوة فإن سيرورتها في ممارسة السلطة سيرورة تبدأ من قلة الحياء وتنتهي بفقدان الحياء. وإن أهم سمة من سمات السلطة المستبدة المحتكرة للقوة موت الآخر. فالآخر لا وجود له إلّا بوصفه عدواً ممكناً يتطلب قمعاً دائماً لإيصاله إلى حالة من العطالة المطلقة.
تتميز السلطة المستبدة في بدايتها بقلة الحياء. وقلة الحياء تعني وجود حياء ولكن بكمية تكبر أو تصغر بحسب الحاجة إلى الحياء.
فحاجتها إلى جماعات مؤيدة تتطلب قدراً من الحياء في ممارسة سلطتها. فالنهب في هذه المرحلة من قلة الحياء يتم في حقل ضيق وبنوع من التستر. وتوزيع فضلات القوة على من يمتّون بعلاقات قرابة مع المستبد الأول يكون محدوداً. وحجم التناقض بين القول والفعل لا يصل مرحلة التضاد المطلق. ودرجة القمع لا تصل حتى الإبادة. وهذا يعني أن قلة الحياء تبرز في تلك الصور مترافقة طبعاً مع ممارسة قمع لإيصال المجتمع إلى عطالة مطلقة.
ما إن تستقر السلطة المستبدة وتيقن أن المجتمع، عبر ممارسة القمع الدائم، قد وصل مرحلة العطالة المطلقة حتى تنتقل السلطة المستبدة إلى مرحلة فقدان الحياء، حيث الآخر قد لفظ أنفاسه الأخيرة.
إن الآخر وقد مات ما عادت هناك حاجة للحياء. وهنا تبدأ مرحلة الفجور السلطوي حيث احتكار القوة صار مطلقاً وحيث الاطمئنان إلى عطالة المجتمع وصل حد اليقين الذي لا يرقى إليه الشك. يخلق اليقين بعطالة المجتمع لدى المستبد وعصبته مرضاً عضالاً لا شفاء منه، ألا وهو مرض فساد العقل.
فما كان يتم في مرحلة قلة الحياء يتم الآن في مرحلة فقدان الحياء. حيث يصل الفجور إلى المطلق، والفجور المطلق خرق كل المعقوليات المجتمعية والقانونية والإنسانية. ويظهر فقدان الحياء لدى السلطة المستبدة في صعد كثيرة، أهمها:
أولاً: الهبش الأقصى، فالمستبد الأول هو الهبّاش الأول، ثم أفراد أسرته الأقربون ثم الأبعدون ثم العبيد الخلّص. وهبش ثروات الوطن واحتكار مصادر الثروة عملية تقع في وضح النهار، ودون الالتفات أبداً إلى الهيئة الاجتماعية.
فالهباش الأول، الحاكم المسخرة، لا يستطيع أن يحكم إلا ببنية يوزع فيها حقوق الهبش على أدواته القمعية أولاً. الوزراء، كبار الضباط العسكريين والأدنين، رؤساء شعب المخابرات وفروعها وإداراتها، مدراء الإدارات ذات الميزانيات المالية الكبيرة. وإن أحداً من هؤلاء الهباشة لا يستحي أبداً في إظهار هبشه.
ثانياً: احتكار الثروة عبر منح الامتيازات للحلقات الضيقة التي تدور حول المستبد. وهذه الحلقة تتنوع بحسب عصبية السلطة نفسها إذا ما كانت عائلية، أو مناطقية، أو فئوية، أو طائفية، ثم تتحول هذه الحلقة الضيقة إلى بنية طبقية شبه مستقلة مرتبطة بالسلطة. فتنشأ حالة الاتحاد بين السلطة والثروة.
ثالثاً: إن عصبية السلطة المستبدة والمتكونة من أسافل الفئات كلها تصبح خزاناً لإنتاج أصحاب المناصب الإدارية، دون أن تتوافر على أي كفاءات، سوى كفاءة العبودية للمستبد أو كفاءة الانتماء للعائلة أو الطائفة.
وفي هذه النقطة بالذات يكون موت الحياء في أعلى صوره العملية. حيث تجري عملية اعتداء مميتة على كل مؤسسات الدولة المفترضة، وبخاصة تلك التي لها علاقة بالحياة كالجامعة والمدرسة والقضاء والاقتصاد، والمحافظين، والإعلام، والثقافة.
رابعاً: ولعمري إن أهم مظهر من مظاهر فقدان الحياء هو موت اللغة عند المستبد وأذنابه. حيث تفقد اللغة وظيفتها الأصلية في التعبير عن العالم المعيش والواقعي كما تفقد وظيفتها الجمالية. وتتحول إلى مجموعة من الأحكام الكاذبة والمخترعة لوقائع لا وجود لها في الواقع. حيث يتحول الخنوع الواقعي إلى خطاب مقاومة زائف، والاستبداد اللاعقلاني إلى حكمة المستبد، والفقر الواقعي إلى اقتصاد قوي والقمع إلى أمان والغباء إلى ذكاء. وقتل مليون من الشعب وتهجير عشرة ملايين اهتماماً بالشعب.
وحين تفقد اللغة، لغة السلطة المستبدة، علاقتها بالواقع وترابطها بالممكن فإنها تعبر أشد تعبير عن اغتراب السلطة المستبدة المطلق. فالخطاب الفاقد للحياء ولا يمارس أي تأثير في الوعي، ويتحول إلى نوع من أنواع الغبار المفسد للهواء، أو نوع من البعوض الذي تتقي شره عبر إغلاق النوافذ أو تحصينها بالمناخل.
ما إن يصل فقدان الحياء حده المطلق لدى السلطة المستبدة ويلفظ أنفاسه الأخيرة ميتاً، وتنتصر الوقاحة والحمق حتى تتحول الحياة إلى مستنقع آسن.
إن المستبد وحاشيته وهم يعيشون لذّة الانتصار، ويتحول المجتمع إلى مستنقع، فإنهم يتوهمون أن الاستنقاع هو الاستقرار. فيطمئنون إلى انتصارهم الساحق، ويمارسون فجورهم بكل أمان وسعادة، دون أن يدركوا أن وراء هذا الاستنقاع الذي يحسبونه استقراراً قوى يزداد حقدها وينمو وعيها وتولد في شرايينها نزعة الثورة، فتلقي في المستنقع ديناميت الحياة، فينفجر المستنقع وتبدأ دورة استعادة الحياة المسروقة، بنداء أولي يخرج من حناجر البشر الحقيقيين: الشعب يريد إسقاط النظام.
وبكل هلع وخوف ودهشة يطل المستبد بأسلحة الموت ويعلن أنها المؤامرة… المؤامرة. لكن الحياء الميت لا قِبلَ له بحياء الأحرار، حيث انتصار الإنسان (أنا) و(آخر) يشق الطريق إلى الوجود الأصيل.
ولعمري بأنّ أسطع وجود لمسارح موت الحياء عربياً، بل وعالمياً الآن بكل أبطالها الأسافل وكُمبارسها مسارح بغداد ودمشق وبيروت.