كبرت في الآونة الأخيرة ظاهرة وجود المثقفين الوطاويط، واتسعت، فلا تدري من أي كهف جاءوا، ولا كيف يتوالدون، انهم يحومون فوق رؤوسنا، حتى ليكادوا يسدون السماء. قل هو الظلام، أجل هو الظلام، وعشاق الظلام يمرحون في صحيفة هنا ومجلة هناك، ويطلون علينا من هذه الفضائية أو تلك، وكلهم يطلقون صوتاً واحداً: الظلام، الظلام.
ولا يستغربن أحد عشق الوطاويط هذه للعتمة، إنها الفضاء الوحيد الذي يجيد فيه المثقف الوطواط الطيران. ولهذا تراه العدو الأكبر للنور وللمعرفة وللحقيقة وللحق وللإنسان، أجل فهذا الفأر ذو الجناحين الفاقد للعينين وقد أدمن الإقامة في الظلام لا يخشى إلا الحرية.
فتراه يطلق أول ما يطلق من رصاص على هذه القيمة الكبرى، إنه العدو المطلق للإرادة الحرة والمدافع الفج عن الاستبداد، فعالم الاستبداد عالمه، والعالم الراكد بيته، والفساد السياسي إهابه، إن سمع صوتاً ينادي بالحرية ارتعد، وإن صرخ المضطهدون: الديموقراطية الديموقراطية راح يشرح للبشر ضرورة الفساد وضرورة دولة الإكراه، وإن رسم مفكر حر صورة للحلم الإنساني هب مدافعاً عن الواقع التعس بوصفه أفضل العوالم الممكنة، عارضاً واقعيته الآسنة مقابل يوتوبيا أولئك الذين يحلمون.
الوطواط مجبول بماء الكره الفاسد، فهو يكره المعرفة والعلم والوعي العلمي، وينشر كلاماً عن خرافة العلم، وهذا أمر طبيعي إذ كيف للوطواط أن يتحمل نور العلم والمعرفة؟
المثقف الوطواط يمدح لكنه معلم في الشتيمة وهو لا يدري أن شتيمته لإنسان ما هو إلا المدح بعينه.
يتقوقع الوطواط بغرائزه المبتذلة خلواً من القلب فهو مجبول بالكره للحب بالمعنى الشامل للحب، وما أن يسمع وعداً جميلاً بالحياة حتى يتوعد الوعد ومبدعه، هذا العبد المستمتع بعبوديته يشهر حبل الخنوع ظناً منه انه يرهب أحداً، وما يدري انه هو ذاته وهم يتهاوى من أي سنية تشع من عين شاعر أو فيلسوف أو فنان، أولئك الذين يصنعون عالماً جميلاً حقاً، وكلما أدرك المثقف الوطواط مكانته الوضيعة في النفوس العظيمة ازداد حقداً وكرهاً وكذباً، كيف لا يكذب المثقف الوطواط والآخر لم يعد موجوداً بالنسبة إليه إطلاقاً؟ الآخر عدوه ولهذا يكذب دون إحساس بأي ذنب، إنه وقد فقد دمه وضميره وعقله وقلبه صار شيئاً يكره الأحياء، فينحدر إلى الدرك الأسفل، ولهذا تراه ينفخ نفسه بريح كريهة معتقداً انه قادر على الارتفاع قليلاً عله يرى على نحو ليس هو كما في الواقع.
من شيمة المثقف الوطواط الغدر والوشاية، فيواجه حجة المفكر الحر بتقول لا سند له، ويعارض شجاعة الأنا المبدع بجبن وقح.