يقول الفيلسوف الإيطالي غرامشي: إن وحدة الفكر والمتانة الثقافية، لا تصبحان ممكنتين إلا إذا قامت بين أهل الفكر والبسطاء وحدة كتلك التي تقوم بين النظر والعمل. شريطة أن يكون أهل الفكر قد جعلوا أنفسهم مفكرين عضويين لتلك الجماهير، يعدون ويوحدون المبادئ والمسائل التي تثيرها تلك الجماهير بنشاطها العلمي، وذلك بإقامة كتلة ثقافية اجتماعية، ويتساءل غرامشي هل الحركة الفلسفية لا تعد فلسفة. إلا عندما تعمل على تنمية ثقافة متخصصة، موجهة إلى زمرٍ محصورة من أهل الفكر. أم بالعكس لا تعد فلسفة إلا بقدر ما تعمل في إعدادها لفكر أرفع من الحس العام ومتماسك تماسكاً علمياً، مع البقاء على صلة بـ الجمهور لتجد في ذلك متسعاً للمسائل التي يجب أن تدرس وتحل؟ ويجيب غرامشي، إن الفلسفة لا تحمل طابع التاريخ ولا تتطهر من العناصر العقلية ذات الطابع الفردي ولا تكون حية إلا لهذه الصلة (يقصد الصلة بين الفيلسوف والشعب).
ولعمري إن -حسن حنفي- أنموذج ساطع على تحقيق مفهوم المفكر العضوي هذا الذي حدده غرامشي في النص السابق. فرحلته في قارة الفكر هي رحلة في الكشف عن أسئلة البشر أنفسهم، وبحث عن أجوبة لهمومهم، ارتقاء بالوعي، وتجاوزاً للحس العام مع بقاء دائم في أحضان تجربة العرب بوصفهم شعباً.
في هذا النص الذي أقدم، أحاول وأنا أعيش تجربة حسن حنفي بوصفه مفكراً عضوياً، أن أجيب عن السؤال: لماذا حسن حنفي مفكراً عضوياً كما وصفته في العنوان. يقول حسن حنفي ((والسؤال الصحيح يتضمن نصف الإجابة، ونصف الإجابة في طريقة وضع السؤال أما السؤال الخاطئ فإجاباته إجابات خاطئة بالضرورة مهما عظم الجهد المبذول ومهما زاد قدر المجيب)) .
هاجس البحث عن السؤال الصحيح يطرح علينا أهم الأسئلة: ما السؤال الصحيح؟ قد تكون الإجابة عن هذا السؤال بتحديد نقيض السؤال الصحيح أي السؤال الخاطئ ومعرفة لماذا هو خاطئ.
إن السؤال الذي إجابته نعم أو لا هو خاطئ، أو أن تكون الإجابتان عنه خاطئتين، أو تكون الإجابة عنه مطلقة. فالسؤال الصحيح يفضي إلى حوار مفتوح، يفتح المجال -كما يقول حنفي- الإجابات متعددة واجتهادات متباينة. (ص۷)
إن الأسئلة هي أسئلة ناتجة عن واقع معيش، وليست معطاة سلفاً للوعي. ولأن أسئلة الواقع تكون الإجابة عنها بفهم الواقع، فإنها لا تحتمل أبداً إجابات ميكانيكية.
في وقت مبكر من جهده الفكري: يكتب حسن حنفي عن ((رسالة الفكر)). في رسالة الفكر يحدد حسن رسالته هو. والتي ظل أميناً عليها حتى الآن. فالمفكر لا يقدم رسالة الفكر إلا إذا كانت بالأصل منهجه في التفكير. أي أنه حين يحدد ما يجب أن تكون عليه رسالة الفكر -المفكر- فإنه يحدد بالوقت نفسه مساره ومهمته التي أسندها لذاته دون أن يكلفه أحد بذلك – كما يقول سارتر. وبالتالي باستطاعتنا بسهولة أن نستبدل المفكر بالفكر. ولقد أبرز رسالته هذه بالنقاط التالية:
كشف الواقع، وكشف الواقع يعني العودة إلى العلاقة الصحيحة بين الواقع والعلم به. وبهذا تأمن سذاجة ترديد النظريات التي نشأت في واقع آخر أو في عالم مضى وهذه هي الرسالة الثانية للمفكر - الفكر. أما ثالث هذه الوسائل فهي الطريقة التي نخاطب بها البشر، اللغة التي تصل إليهم دون إسفاف أو ديموغوجية مبتذلة. لأن مهمة المفكر هو التأثير بالقوة الفاعلة أي الشعب، صانع التاريخ. وهنا تنتج الرسالة الرابعة ألا وهي ضرورة الترابط بين الفكر والممارسة. وبالتالي يجب الكف عن العيش في النظريات أو الأفكار في سبيل عرضها فقط دون أن يكون لها صلة بالمشكلات الرئيسة التي نعيش. والواقع بدوره يحتاج إلى تحليل، إلى عرض. والمفكر عليه أن يتحد بالواقع، ولما كان الواقع حركة فالفكر هو التعبير عن حركة الواقع بسيرورته، وهذه واحدة من أهم رسائل المفكر. لأنها تمنع الفكر من أن يكون بوقاً لتحرير الواقع القائم والدفاع عنه ضد من سموا بالمشاغبين.
والمفكر يفض الواقع كي يتجاوزه، ولا يتوسل ذلك من أية سلطة غير سلطته . هكذا تكون رسالة المفكر -كما يراها حسن حنفي- وهي في النهاية الكشف عن الواقع وما يختزنه من أسئلة وما تتطلبه الأسئلة من أجوبة مترابطة مع الأمثلة الصحيحة، ولغة قادرة على النفاذ إلى وعي الجماهير. فما هي أسئلة حسن حنفي؟ وبالتالي ما الواقع الذي فضه هذا المفكر العضوي.
لقد انشغل حسن حنفي أولاً بالمقدس المعيش، وإذا أردنا أن نصوغ السؤال -سؤال المقدس- صغناه على النحو التالي: ما الدور الذي يقوم به المقدس في حياتنا الحاضرة، والمقدس حاضر، لكنه ابن الماضي، إنه التراث الإسلامي، والتراث الإسلامي ليس مجرد صورة تراثية فلسفية أو فقهية، إنه أيضاً الدين نفسه. إنه الواقع المعيش حيث ما زال الدين يقوم بدورٍ أخلاقي وسياسي في عالمنا الراهن.
نقطة انطلاق حسن حنفي في معالجة المسألة الدينية هي التالية والتي يلخصها قوله: ((ومقياس صحة العقائد ليس صدقها أو كذبها من الناحية النظرية، بل مقدار فاعليتها من الناحية العملية)).
والحق أن الدراسة التي نشرها حنفي في الفكر المعاصر أبريل ۱۹۷۰ العدد ٦۲ والتي حملت عنوان ((التجديد والترديد في الفكر الديني المعاصر)) هي أساس منهجي لكل جهده اللاحق في تناول هذه المسألة.
فالمسألة عند حنفي كيف نحوّل الدين إلى فكر ناف يتحد بالواقع وتكون حركة الفكر فيه تغيير الواقع. إنه الفكر الذي يحقق الثورة المستمرة والذي يقضي على كل تصور ديني تقليدي. هذا هو جوهر التراث والتجديد ومن العقيدة إلى الثورة.
تحويل المقدس في خدمة البشر. تحويل المقدس إلى أيديولوجيا ثورية لتغيير العالم، تحويل المقدس إلى دافع للسلوك المتمرد. ومن هذه الزاوية يظل حسن حنفي مشدوداً إلى البشر، أي مفكراً عضوياً.
وليس إخضاع التراث للعقل بما في ذلك الكتب المقدسة إلا البحث عن هذه العلاقة بين الإنسان والإيمان. لأن العقل في النهاية متحد بالواقع نفسه. فالعقلانية مطلب تفرضه مقتضيات العصر لا التأثر بالغرب، والدعوة إلى العلم رفض للجوانب الغيبية في التراث المستمر، والدعوة إلى الحرية والديمقراطية وليدة رغبة دفينة في التحرر وبحث عن أنظمة سياسية جديدة.
وهكذا تكون رحلة حسن حنفي مع التراث رحلة البحث عن العقلانية والعلم والديمقراطية في واقعنا، وكيف يمكن أن يسند الوعي الديني هذه المطالب. لماذا نحتاج إلى العقل والعلم والديمقراطية؟ الجواب بسيط جداً، إنها ضرورية لحياة البشر. فالذي يهم حسن حنفي ((الخبز لكل فم والدواء لكل مريض والملبس لكل عارٍ والمأوى لكل شريد والكلمة على كل لسان)) (ص ٩٤).
بعد ربع قرن من كتابه: التجديد والترديد، يكتب حسن حنفي مقالة صغيرة بعنوان: ((الدين نظام حياة)) يلخص فيه نظرته القديمة الجديدة: الدين نظام اقتصادي لا يكون المال دولة بين الأغنياء في المجتمع ومحصوراً في أيد قليلة تسيطر وتستغل، الملكية فيه عامة لوسائل الإنتاج، العمل مصدر والأجر قيمة العمل دون فائض قيمة. الدين نظام سياسي يقوم على الاختيار الحر من الشعب، الدين نظام اجتماعي يقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية، الدين نظام أخلاقي لا يقوم على المظاهر الخارجية ولبس الجلباب وأخذ ألقاب الحاج والشيخ وأمير المؤمنين، الإيمان عمل صالح، والدين إحساس جميل بالعالم، الدين نظام قانوني ينظم العلاقات بين الأفراد، الدين نظام عالمي يحدد العلاقات بين الدول من خلال الاحترام المتبادل وعدم العدوان. لو غيرنا كلمة دين واستبدلنا الماركسية به، لصدق قوله إذاً.
والحق أنه ليس من الحكمة إطلاقاً أن نصغر خدنا لدور الدين في الحياة، لا بوصفنا دعاة دين بل لأن الدين حاضرٌ في حياة البشر، من كل جوانبها، وخاصة فيما نشهده الآن من دخول الدين عبر الحركات الأصولية عالم السياسة، لكن أعتقد جازماً أن الأرض التي أنتجت الظاهرة الدينية في صورتها العنفية هي القمينة بالنظر والتغيير، قمينة بالنظر لأنها أصل، ويجب أن تكون موضوع تغيير لأننا نبحث عن عالم لا تتوافر فيه شروط الإحساس بالغبن وشرخ الكرامة الإنسانية والجوع والفقر والتبعية.
من الأسئلة الصحيحة التي طرحها حسن حنفي، والتي فرضها الواقع نفسه هو العلاقة مع الغرب؟
فالغرب ليس مجرد صورة للتقدم أثرت في وعي المفكر العربي بين داعية للحداثة، أي إعادة إنتاج الغرب في عالمنا وبين رافضٍ لها وبين موقف وسط. إنه العالم المهيمن بكل الوسائل المادية والثقافية. يرصد حسن حنفي هذه العلاقة التاريخية بين من يسميه الأنا والآخر. منذ الانفتاح الحضاري في عصر الفتوحات، وهي مرحلة الثورة حيث ترجمت علوم اليونان والرومان مروراً بالحروب الصليبية حيث صار الغرب غالباً وظهرت نزعة التقوقع. وانتهاءً بصدمة الحداثة منذ حملة نابليون وما قبلها.
يجعل حسن حنفي من الغرب موضوعاً أمام الذات العارفة العربية في ((علم الاستغراب)) تتحول الذات - الباحث إلى فاعل. لذلك، فإن حسن حنفي أبعد ما يكون عن الموقف العدمي تجاه الغرب -بدافع العداء - أو الموقف المتمثل له كلية بدافع الانبهار به. إنه يعرض الغرب ويدرسه بوصفه موضوعاً، وهذا يعني التحرر من أن تكون موضوعاً.
ومن هنا نفهم أيضاً وظيفة الترجمة عند حسن حنفي فهو إذ ترجم اسبينوزا ((مقدمة رسالة في اللاهوت والسياسة ))وأرفقها بمقدمة طويلة، فقد طمح لأن يؤصل للعقل في ثقافتنا الراهنة. وحق العقل في ارتياد كل العوالم ومنذ الكلمات الأولى للإهداء. إهداء الترجمة_ ندرك الحكمة من ترجمة الرسالة ((إلى من ينظرون إلى الكتب المقدسة نظرة علمية)).
أن يكون المقدس موضوع نظر علمي فهذا يعني الإعلاء من شأن العقل في ثقافتنا وحنفي يسعى لعرض تجربة حضارة أخرى علّ حضارتنا أن تصيب بعض الفائدة من ذلك. وقد كتب في المقدمة قائلاً: ((وإن من مهام الفكر في البلاد النامية التعريف بأهم التحولات الفكرية التي حدثت في الحضارات الأخرى والتي تحدث من جديد في حضارته. ولا يعني ذلك أن كل حضارة لابد أن تمر بالنمط الحضاري الأوربي وبمراحل تطوره، بل يعني وجود بنية تاريخية متجانسة في حضارتين أو أكثر .
يبتعد حسن حنفي بوصفه مفكراً عضوياً عن موقف التقويم الإيجابي أو السلبي لتراث الغرب، لأن سؤال الأساس كيف أثرت الثقافة الغربية في ثقافتنا العربية، كيف تتحول الفلسفة الغربية إلى عنصر في كيْف جديد لفلسفة تعكس واقعاً متعيناً وتقدم أجوبة عن أسئلة خاصّة، أجوبة تحوّلها الفلسفة إلى أجوبة عامة.
ولهذا يبدو حسن حنفي لدى جمهور التصنيفيين إشكالي بامتياز. فلا هو نال رضا التيار الديني السلفي الكلاسيكي، ولا حاز على قبول التيار العلماني، ولا وجد عند التيار الماركسي استحساناً. ولعمري، أن ذلك ليس مثلباً بل هو ميزة المفكر الذي يسعى للتعبير عن واقع بوعي مستقل، سواء قبلنا أطاريحه أو رفضناها. فهموم حسن حنفي ليست أكاديمية صرفة، وإن كان أكاديمياً، همومه هي ((تحرير الأرض وتحويل البشر إلى فاعلين، وتحقيق المساواة والديمقراطية والوحدة)).
إذ ذاك تتحول الفلسفة لديه إلى وعي بالعالم من أجل تغييره. وهذا أهم ملمح من ملامح المفكر العضوي.