تتمتع كل لغة بروح خاصة بها تميزها عن غيرها من اللغات، وروح اللغة هي ما تنطوي عليه اللغة من جمالية التعبير والعلاقة بين الكلمات في الجملة، والصياغات المتداولة، إنها الأسلوب والصورة اللتان نفكر بهما ولا انفصال أبداً بين روح اللغة وروح الشعب الذي أنتجها ويتداول بها ويعبر فيها عن عقله ومشاعره وحياته اليومية، أي لا انفصال بين روح اللغة والتفكير سواء كان التعبير باللغة الشفاهية أو باللغة المكتوبة. ومن يعرف أكثر من لغة يعرف في الوقت نفسه الفرق بين أرواح اللغات.
وروح اللغة المحكية اليومية نفسها مليئة بالصور والكنايات والاستعارات يقولها المرء بشكل عفوي ودون تفكير بها، لأن روح اللغة، والحال هذه، صارت جزءًا من عادات الكلام.
المبدع في الأدب بكل أنواعه والفكر بكل أصنافه يثري روح اللغة ويتحول إثراؤه هذا إلى وعي جديد بروح اللغة، فروح اللغة تتجدد دائماً، بتجدد التعبيرات عن موضوعات العقل.
فلا شك بأن روح لغة الخطاب المتعلقة بالحب ذات لغة مختلفة عن روح لغة الخطاب الفلسفي، وروح لغة الخطاب الفلسفي مختلفة عن روح لغة الخطاب الروائي وهكذا.
الفكرة التي أدافع عنها هنا هي بأن روح الإبداع هي ذاتها إبداع في روح اللغة. وروح اللغة هي صورة المعنى. ولأن روح اللغة حية فهي متجددة باستمرار بتجدد الحياة الكلية وتموت بموت الحياة الكلية. ولهذا ترافق عصر النهضة العربية ببعث الحياة بروح اللغة بعد أن خبت هذه الروح في عصر الانحطاط.
قد شهد القرن التاسع عشر في أواخره وبداية القرن العشرين تجديداً في لغة الخطاب الأدبي والفكري والسياسي، بل إن النهضة ورواد النهضة قد جددوا في روح اللغة العربية، فلم يعد العربي يستسيغ الخطاب المسجوع والمتكلف وراح إلى النثر المتحرر من روح السجع والطباق وما شابه ذلك. ولم يمض وقت طويل حتى اكتسبت اللغة العربية النثرية روحاً جديدة.
وروح اللغة، بهذا المعنى لا تستقر على حال، لأنها تعكس الأحوال في جريانها وجدتها وثرائها وموت ظواهر وولادة أخرى. غير أن تغير روح اللغة بطيء جداً، وهذا أمر من شيمة اللغات جميعها، كما يخضع لصراع الأجيال.
وهذا لا يعني إصدار حكم قيمة للحكم على روح اللغة عند هذا الجيل أو ذاك، فروح اللغة العربية في نثر الجاحظ وشعر المتنبي أزهرت من روح اللغة في القرن الخامس، بل يمكن أن نتحدث عن ازدهار الحياة بكليتها وازدهار اللغة وانحطاط الحياة وانحطاط اللغة. وباستطاعتنا الْيَوْمَ أن نميز في المرحلة الواحدة بين تطور روح اللغة العربية وازدهارها في الأدب – النثر القصصي والشعر-، وانحطاط الخطاب الإعلامي الرسمي الخالي من روح العربية. واللافت للنظر أن روح اللغة حتى عند الشاعر نفسه تتغير بتغير الموضوع. فتراه يعود إلى روح اللغة القديمة إن كتب شعر المديح الفج وشعر السياسة المباشرة فيما يبدع في شعر الوجدان. فالموضوعات القديمة لا تصلح معها اللغة المتجددة وهكذا.
ولعمري إن أخطر ما تتعرض له روح اللغة هو لغة حجب الواقع والتقليد وذم التجديد. وهذه معركة لا تتوقف في كل العصور.
ليست اللغة أداة العقل في التعبير، اللغة هي العقل ذاته، بل إن العقل لا يتعين إلا بلغته. فالعقل حين يصدق يعبر بلغة صادقة، بلغة تتطابق فيها الأذهان مع ما في الأعيان، والعقل حين يكذب لا تعود اللغة متطابقة مع الأعيان. وحين يبدع العقل يبدع لغة إنشائية عبقرية. والفهم والتفسير والشرح والتعقل والتعبير كل هذا عقل في حال الفيض اللغوي.
ولهذا كل اعتداء على اللغة ليس سوى اعتداء على العقل ذاته، وأكبر اعتداء على اللغة حين تصير اللغة حجاباً. واللغة حجاباً هو العقل حجاباً.
ولا يحسبنّ أحد بأن الاعتداء على اللغة هو ارتكاب الخطأ النحوي أو الصرفي أو الأسلوبي، فهذه أمور ترتد إلى الجهل وليس إلى الاعتداء، ولا تنطوي على نية الاعتداء، والنية الحسنة لا تبرر الجهل ولا شك.
لاعتداء على اللغة لا يكون إلى عند أولئك الذين يزيفون الواقع وهم قاصدون إلى ذلك، مع معرفتهم بحقيقة الأمور والأشياء والوقائع، وذلك عبر خطاب يقلب الأمور رأساً على عقب. وهنا تصبح اللغة – الخطاب معادية للناس والحق والحقيقة.
فقلب الأمور رأساً على عقب نوع من الكذب الصراح، وبخاصة حين يتبرج العقل بلغة الشعارات التي لا حضور لها في الواقع والوجدان معاً.
فمنذ انطلاق التاريخ العربي الراهن المتمرد وحتى الآن تشهد الساحة الكلامية المكتوبة والشفهية خطابات معادية للواقع الحقيقي ومعادية للغة في الآن نفسه، عبر اللغة الحجاب، اللغة الملفقة للمواقف الغامضة التي تخفي العداء للحقيقة، وذلك انطلاقاً من الشعارات الأليفة، الممانعة والقومية العربية، والكفاح ضد الإمبريالية، والتآمر على مصير العرب.. الخ.
فيصبح الدفاع عن الطاغية خطاب دفاع عن الانتماء القومي، وهنا بالذات تصبح اللغة حجاباً، لأنها تحولت إلى مطية، ومضمونها لا يتطابق مع واقع الحال، وكل لغة تزيف الواقع المرفوض واللاعقلاني دفاعاً عنه على أنه أفضل العوالم الممكنة هي لغة – حجاب.
فمعيار الإيمان بالفكرة وحضورها بالوجدان هو ممارستها من قبل المؤمن بها في الواقع، فاللغة التي تقدم خطاباً عن تطابق الفكرة مع ممارسة نقيضة هي لغة منبتة، ففكرة التحرير، وهي فكرة أثيرة لدى الناس والتي يتحجّج بها مؤيدو الدكتاتور لتبرير مواقفهم ليست حاضرة في ممارسة الدكتاتور ولم تكن أصلاً حاضرة، ولم تنتج أيّ نوع من المقاومة ضد المحتل، وهكذا تكون اللغة التي تتحدث عن فكرة التحرير لدى نظام لا يهجس بالوطن ولا بالأرض المحتلة هي لغة منبتة جداً. وهكذا لغة الممانعة بلا ممانعة، ولغة العروبة بلا إيمان بالمصير المشترك للعرب.
وتزداد غربة اللغة واغترابها كلما خلت من المعنى وصارت مجرد أقوال خاوية، إذ يحاول جمهور من الكتاب الهروب من المشكلات الحقيقية المرتبطة بالمصير والحريّة والكرامة الإنسانية في شروط الانفجار الكبير الذي نعيشه إلى المشكلات الزائفة والخطاب الأخلاقي الذي لا يغضب أحداً رغبة في إخفاء الموقف. فنحصل على لغة تدين الجميع، تدين القاتل والقتيل، تدين تخلف الجميع، وتزرع اليأس في النفوس بنوع من التشاؤم المصطنع، وتلقي باللائمة على التاريخ والثقافة، وعبر هذه اللغة المنبتة يعطون صك براءة للذين دمروا الحياة وسرقوا زمن الناس إخافة وإبادة للحياة.
إن الهروب من الموقف عبر هذه اللغة المنبتة ليس تعبيراً عن هوية متحررة، بل على الضد من ذلك إنه بعكس هوية ضيقة متيقظة تحاول أن تستتر بهذا النوع من اللغة. ولكن من حسن حظ الوعي أن لغة كهذه محدودة التأثير والسلطة، لأنها ليست معرفة أصلا، وإنما لغة أيديولوجية زائفة تعلن انحيازها للموت ضد الحياة.
اللغة المخاتلة
حين يجد المثقف نفسه وجهاً لوجه أمام التحولات الكبرى في تاريخ ينتمي إليه، التحولات التي تحدد المصير، فإنه يتحول في كل أحواله إلى ذات مندرجة في هذا التاريخ العاصف المرتبط كما قلنا بفكرة المصير. ذات لا تملك إلا الكلام، الكلام المعبر عن موقف، هو في كل تعيناته مسؤول. بل إن أثره على حركة التاريخ، سلباً كان هذا الأثر أم كان إيجاباً لا يقل فاعلية عن أثر المندرج عملياً في معمعة الصراع المادي.
خطاب المثقف الحر: الشاعر، القاص، الروائي، الفنان، الفيلسوف، المفكر، الصحفي المنتمي دون لَبْس إلى حركة التاريخ المؤسس للحرية خطاب واضح وصريح، خطاب مؤسس على موقف أخلاقي سامٍ وشجاع. وخطاب المثقف العبد المنتمي إلى الوسخ التاريخي وإلى الطاغية هو الآخر خطاب واضح وصريح، خطاب مؤسس على انحطاط أخلاقي دنيء.
يمنح الوضوح والموقف الصريح كلا الخطابين القدرة على الوصول المباشر إلى المتلقي من حيث ماهيته. وصار قادرا على التمييز المباشر بين مثقف الثورة والحريّة ومثقف الوسخ التاريخي السلطوي والعبودية. غير أن أسوأ أنواع الخطابات هو الخطاب المخاتل. والمخاتلة تعني الحجب المراوغة والمخادعة والمغافلة.
في الخطاب المخاتل نعثر على مثقف يخاف الظهور على صورة المثقف العبد، ويبحث عن لغة يهرب فيها من عبوديته والظهور بمظهر الحر عبر حرف الاستدراك ” لكنْ”. لكن حرف الاستدراك هذا هو جسر للانتقال إلى مكبوته بشكل واعٍ بلغة تتحفظ على خطاب الحر بحجة النقص والنسبية فيه.
لغة مثقف ”ولكن” هذا لا تسعى إلا أن تظهر صاحبها بمظهر المعادي للقيم الإنسانية الرفيعة المعبرة عن الحرية أساساً وما يدور في عالمها من قيم، لأنه إن فعل ذلك وقع فوراً في مستنقع العدوان على الإنسان عموماً وعلى الإنسان المكافح من أجل حريته الآن، ولهذا تراه يركب لغة القيم هذه ثم يتوقف عند ”ولكن”. تسمح له ”ولكن” هذه أن يضعنا في اختيار أحد مستنقعين، أو إحدى عبوديتين. فإما أصولية مدمرة أو دكتاتورية مدمرة، وعليه يعلن مثقف ولكن حقيقة موقفه باختيار الدكتاتورية المدمرة. إنه مثقف ولكن هو مثقف اللغة – الحجاب.
ينتمي مثقف ”ولكن ” بالأصل إلى فضاء التحرر، حين لم يكن الموقف من التحرر يتطلب الشجاعة في القول من جهة، وحين كان الظهور عبر خطاب الحرية والتمرد عادياً، أما وإنه وجد نفسه في لحظة الخيار الشجاع، خيار الحرية، خيار المسؤولية، خيار الموقف من ثورة شعب، فإنه لم يستطع إلا أن يعود إلى هويته المخفية عن عمد فاختار أن يكون مثقف ”ولكن”. معتقداً بأنه عبر “ولكن” لا يخسر ماضيه أو يحتفظ بماضيه وبصورته التي فضحتها ”ولكن”.
ففي الوقت الذي يعلن فيه مثقف التمرد الكلي، أو التمرد الميتافيزيقي، الموقف الواضح والصريح ضد الأصولية القاتلة مهما كان مذهبها والدكتاتورية القاتلة مهما كانت طبيعتها، فإن مثقف ”ولكن” يعلن بكل شجاعة زائفة وقوفه ضد نمط من الأصولية ويمجد أخرى. فيركب باسم وقوفه ضد نمط وحيد من الأصولية ”ولكن” ليعلن انتماءه الحقيقي للدكتاتورية.
ومثقف “ولكن” لا يكتفي بالغرق في مستنقع الدكتاتورية، بل ويتحول إلى شتام لمثقف الوضوح والانتماء إلى الحرية والتحرر، فترى الشاعر ”البكّاء” الغاضب على العالم يتحول إلى شاعر ”ولكن” وشتاماً، فتدرك من فورك إن هذا ”البكاء” لم يكن يبكي إلا على وضعه الفردي الخاص، لم يكن متمرداً إلا على وجوده الخاص. ولهذا ما أن وضع أمام خياري الموقف من حركة الحياة، إما أن يكون مع روح الشعب ضد الدكتاتور والأصولية بك أنواعها، أو مع الدكتاتور وأصولياته، وقف مع الدكتاتور وأصولياته، باسم الوقوف ضد أصولية مجرمة هي الأخرى.
ولعمري لو لم يكن مثقف “ولكن” بالأصل غارقاً في هويته الزائفة الضيقة لما كشفت الحياة انحطاطه الأخلاقي هذا.
اللغة الباردة - اللغة الحجاب
تقول العرب في تعريف الكلام: الكلام ما كان مفيداً، أما ما ليس بمفيد فيكون قولاً وليس كلاماً، فالقول يكون مفيداً أو ليس بمفيد. الكلام هو تعبير سواء جاءت الجملة خبرية أو جاءت إنشائية فإنه بالأصل قول مفيد. لكن القول المفيد يقال على أنحاء مختلفة، إذ يمكن أن يأتي وصفاً موضوعياً لواقع الحال، أو وصفاً منحازاً، وقد يأتي موقفاً عدوانياً أو موقفاً مؤيداً، وقد يأتي بلاغياً وقد يأتي عادياً، وفي كل الأحوال هناك فروق في صور الكلام مردها إلى ذات الكاتب ومهنته وموهبته ودرجة محبته للغة.
لا أريد أن أقدم درساً في صور الكلام، المكتوب والشفهي، بل ما يلفت النظر وجود نمط من الكتابة بلغة باردة جدا عن عالم كل ما فيه حار ويغلي.
أجل في عالم يغلي أشبه بالبركان، ملون بالدم، مليء بشواهد قبور الأطفال ودمار البيوت المبعثرة ومهج الأمهات الثكالى، نقرأ على صفحات فيسبوك والجرائد أقوالا تحليلية باردة اللغة، كأن كتبتها يعملون في مخبر فيزيائي. والأكثر مدعاة للتأفف من هذا النمط البارد ذلك القول الذي يصدر عن محللين سياسيين وإستراتيجيين من على شاشات التلفزيونات.
وعندي أن صورة الكلام المكتوب والشفهي هي تعبير عن محتوى الشخص وليس عن محتوى الكلام، لأن مضمون الكلام هو الشخص.
فحين يكتب شخص سوري أو عربي عن مجزرة المذبحة الكيمياوية التي نفذتها الجماعة الحاكمة في سوريا في الغوطة الشرقية بلغة الحدث الإخباري دون أيّ لغة تظهر طابع الجريمة والموقف من الجريمة فهذا الشخص إما أنه متعاطف مع من ارتكب الجريمة، أو أنه حيادي الموقف من الجريمة أو خائف من التعبير عن موقفه.
فلنتأمل مثلاً صورة الجمل القولية الباردة حول هذه الجريمة:
1- قضى عدد من الأفراد في الغوطة الشرقية موتاً نتيجة ما يعتقد بأنه بسبب استخدام أسلحة كيمياوية.
2- قضى عدد من الأفراد في الغوطة الشرقية نتيجة استخدام الأسلحة الكيمياوية، وقد تبادل النظام والمعارضة الاتهامات حول الفاعل.
3- قضى عدد من الأفراد بينهم عدد من الشيوخ والأطفال والنساء نتيجة استخدام النظام الأسلحة الكيمياوية كما تقول المعارضة. وقد أنكر متحدث باسم النظام أن يكون قد قام بذلك.
هذه الجمل الإخبارية الباردة في صورتها تعكس مواقف باردة، ونظرة غير إنسانية لجريمة تهز أقسى وجدان على هذه الأرض.
ماذا لو جاء الكلام على النحو الآتي:
"استيقظت غوطة دمشق الشرقية هذا الصباح على جريمة نكراء ارتكبتها قوات النظام السوري بحق المواطنين الأبرياء العزل، حيث استخدم النظام الأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً في قصف المدنيين، وتشير الأنباء بأن أكثر من ألف شهيد قد قضوا بينهم أكثر من أربعمئة طفل".
في هذا الكلام هناك كلمات دالة مؤثرة "جريمة – شهيد – طفل" وهناك قول صريح بمرتكب الجريمة.
هذا القول يتحدث عن الواقعة وهو قول موضوعي يكشف عن الحقيقة، فصورة اللغة مطابقة مع حقيقة الواقعة، ومعبرة عن موقف وجداني تجاه حدث تم لا سبيل لنكرانه.
أو استمع إلى أحد المحليين يقول لك "وقد أفرج الحوثيون عن مجموعة من الأسرى بينهم أطفال"، وكأنّ أسر الأطفال أمر عادي جداً.
هذا الفعل الخطير جداً لا يقال بهذه اللغة الباردة جداً. أطفال يصبحون أسرى بيد فئة تطلق على نفسها اسم "أنصارالله". أي أنصارلله هؤلاء الذين يأسرون أطفالاً مهما كانت ديانتهم أو قوميتهم أو مناطقهم فكيف إذا كانوا أطفالاً يمنيين مسلمين. هكذا يجب أن يقال.
لا شك أن من شأن العقل أن يكشف الحقيقة ويعرضها عارية أمام الناس دون زيف، وقد يعرضها عقل بارد بطبيعته، ولكن من قال إن العقل لا يكشف الحقيقة إلا إذا كان باردا؟
أليست الحقيقة التي يعرضها العقل الحار أجمل بكثير وأنفذ تأثيراً في الوجدان من الحقيقة نفسها التي يعرضها العقل البارد. العقل البارد يعني لغة باردة. العقل الحار يعني لغة حارة. اللغة الحارة انتماء واللغة الباردة انتماء حذر أو هروب باسم الموضوعية. لمن لا يعلم اللغة هي الذات نفسها.
قل لي بأي روح لغة تكتب، وبأي صورة لغة تقول، أقول لك من أنت. اللغة الباردة تعني إنساناً بارداً. ولكن علينا أن نميز روح الكلام الحار الصادر عن ذات صادقة، والحرارة الزائفة التي يقوم بها ممثلون بلغة سوقية.
لا ينتمي الكلام المعسول بحق اللغة، أيّ لغة، إلى العقل المفكر، بل هو إلى لغة العجز أقرب. فكل قول عن حال اللغة ليس سوى قول عن أحوال العقل المتعين. فلنحدد أحوال عقلنا كي نحدد حال لغتنا؟
ولعمري بأن أهم مثالب الخطاب العربي اليوم، هذا الانفصال بين اللغة والواقع. وانفصال كهذا يحرم اللغة من إحدى أهم وظائفها، وظيفة امتلاك الواقع. كما يحرمها من قدرتها على تجديد روحها الخلاقة. حتى ليمكن القول بأن الانفصال بين اللغة والواقع مظهر من مظاهر موت اللغة.
والمتأمل بالخطاب السياسي والخطاب الديني والخطاب الأخلاقي والخطاب الشعري التقليدي، يجد ما يمكن تسميته باغتيال اللغة، فاللغة هنا ساكنة لا حياة فيها، ومفرداتها منبتة، وجملها زبد.
ففي الوقت الذي يحملنا الواقع على تجديد خطاب السلطة بارتباط بمفهوم الحرية، مازالت لغة خطابات السلطة تعبيراً عن الاستبداد بصورته القديمة والأكثر تخلفاً ومستعيرة المصطلحات التي يجب أن تكون قد بادت بفعل تطور الوعي والأحوال. فأين نجد المعادل الموضوعي لمصطلح “سيد الوطن”، في وطن يعيش حال تأفف الأحرار أملاً في المساواة وتحقيقي مركزية الإنسان.
ماذا يعني أن تكون اللغة المعبرة عن الأحوال المعيشة بمفردات تنتمي إلى لغة الفقهاء الأقدمين.
ماذا يعني محاكمة القيم المتجددة بلغة تنتمي إلى عصر القطيع والحلال والحرام، ماذا يعني الاحتفال بقصائد مدح وذم وفخر وهجاء، في وقت تحولت فيه أغراض الشعر إلى التجربة الملحمية للإنسان فرداً وجماعةً.
فهذا العقل الذي يغتال اللغة، وينتمي إلى عالم القبور هو الخنجر الدائم الذي يغتال العربية بكل حقد على روحها الوقاد.
لقد فجّر رواد النهضة العربية ينابيع اللغة العربية التي سُدت في عصر الانحطاط، وأكدوا لنا العلاقة التي تقوم بين اللغة والانحطاط، واللغة والنهضة. فشتان بين لغة الأفغاني والكواكبي وعبده وعلي عبدالرازق ولغة أسلافهم.
لماذا؟ لأنه لا انفصال بين العقل واللغة، بين تجدد الروح التاريخي وتجدد اللغة، بين حركة الحياة وحركة اللغة.
اللغة الأيديولوجية بوصفها حجاباً
لغة الحجاب
حين يعتنق الكائن أيديولوجية ما، أو ينحاز إليها بصورة من الصور، فإنّ هذه الأيديولوجيا تغدو النظارة التي يرى فيها العالم. وليس هذا فحسب؛ بل ويُخطِئ المختلفين معه بالمطلق. فتغدو المعرفة، إذ ذاك، أسيرة الأيديولوجيا وليست عملية كشف وفهم وتفسير وموضوعية، وهذا هو معنى حجاب اللغة الأيديولوجية بوصفها أداة تزييف.
ولعل أخطر ما في الأيديولوجيا هو تحولها إلى تبرير أيديولوجي لأشد الجرائم فتكاً بالإنسان في الأنظمة الطغيانية.
ولهذا يبدو خطر الأيديولوجيا على المعرفة في الدول الديمقراطية أقل بكثير من خطرها المدمر في الأنظمة الشمولية التي تفرض أيديولوجيتها على المجتمع، وتحمل الناس على الإيمان بخطاب اللغة المنبتة. والتاريخ شاهد على ذلك الخطر.
ناهيك عن خطاب ولغة الخرف الأيديولوجي. لغوياً الخرف من الفعل الثلاثي خرف: فسد عقله من الكبر أو انقطعت صلته بالواقع. وانقطاع الصلة بالواقع يخلق أشكالاً متعددة من السلوك المرضي، أو اللاسوي في أحسن الأحوال. إن تعريف الخرف بوصفه انقطاع الصلة بالواقع، يؤكد ما نذهب من الانفصال بين اللغة.
فالخرف الأيديولوجي لا يصيب الأيديولوجي الذي يبلغ من العمر عتياً وظل متمسكاً بأيديولوجيا فقدت صلتها بالواقع فقط، وليس وقفاً على الجماعات المعنّدة في أوهامها الأيديولوجية، وإنما يصيب الجميع من كل الأعمار والأزمان. والحق أن العالم العربي الآن يعاني من وجود عدة أشكال من الخرف الأيديولوجي ومن النتائج الكارثية لخرف كهذا، لأن الأيديولوجيا مرتبطة بالسلوك.
ولا نستطيع أن نقف عند كل أشكال الخرف الأيديولوجي ولغته الحاجبة للواقع. فلو تأملنا الأيديولوجيا الأصولية الآن واستطالاتها، فلا شك أننا واجدون نموذجاً فذاً للخرف الأيديولوجي المترافق مع جنون أيديولوجي.
فعندما يصرح زعيم ميليشيا شيعية عراقية بأن المعركة مازالت حتى الآن بين أنصار الحسين بن علي وأنصار يزيد بن معاوية بكل ما ينطوي عليه هذا القول من خرف أيديولوجي فإنه، أي هذا الخرف، يفضي إلى جنون ثأري في القرن الحادي والعشرين من حدث تاريخي مرتبط بالصراع على السلطة، وعلى السلطة فقط، ينتمي إلى القرن السابع الميلادي.
فالحكم على الحاضر بلغة وأشباه مفاهيم تعود إلى عالم قديم، أمر مستحيل منطقياً وواقعياً ومعرفياً، بل هو أخطر أعراض الخرف الأيديولوجي.
ولأنه ليس بمقدور الواقع أن يستمرئ أمراً كهذا، ولّد هذا الخرف الأيديولوجي ليس حركات عنفية تسعى لتكسير رأس التاريخ، فقط، بل إن الحركات المسلحة تحجب أهدافها بلغة حجاب عبر الأسماء: كحزب الله وأنصارالله وجندالله ونصرة الله، والتي تحمل السلاح وتنظم نفسها تنظيماً فاشياً، ما هي إلا صور فاقعة من صور وحدة الخرف الأيديولوجي مع الجنون الأيديولوجي.
والخرف الأيديولوجي الشيوعي المستمر بصورته القديمة، رغم انهيار التجربة السوفييتية أو أشباهها في أوروبا الشرقية، والمستمر عند بعض الأفراد والأحزاب القديمة، لا يقل عن الخرف الأيديولوجي الأصولي الديني.
فما زال البكداشيون السوريون وما شابههم من الشيوعيين العرب بسبب خرفهم الأيديولوجي يستخدمون اللغة السوفيتية نفسها ويحجبون الواقع الذي ولد بعد انهيار الشيوعية.
ولكن من حسن حظ الواقع أن النتائج السلبية لخرف كهذا، لا تتعدى الكتابة والمواقف السياسية السلمية، وآية ذلك أن الشيوعية مهما أخذت طابع الدين الدنيوي، تظل في الوعي ابنة الأرض وخالية من المقدّس، ولهذا خضعت للنقد من أصحابها أنفسهم.
دوائر لغوية كثيرة
أما أشكال الخرف الأيديولوجي المستترة فحدّثْ ولا حرج، وهي مستترة لأنها لا تظهر إلا في الممارسة وليس في الخطاب، وهي لا تقل خطورةً عن أيّ أيديولوجيا معلنة إن لم تكن أخطر من المعلن.
وتأسيساً على ما سبق ذكره، فإن ماهية الخرف الأيديولوجي تظهر أكثر ما تظهر في المراحل الانتقالية للتاريخ، حيث الشيخوخة الأيديولوجية تقوم بالهذيان وتتحول إلى ذاكرة ليس فيها إلى القديم.
أما بعد:
فإن المسألة الأرأس هي المتعلقة باللغة والمفاهيم المعرفية، فاللغة هي العقل وما يختزن من لغة مفهومية. حجم المفاهيم يحدد حجم العقل ونوعه. لا يمكن تخيل مفهوم لا أساس واقعياً له، إذا يمكن ان نطلق الأسماء على تخيلاتنا، ولكن ليس كل اسم مفهوم. الغول اسم للمتخيل الذي ركبه العقل وهو تصور وليس مفهوماً. لأن المفهوم تجريد، والتجريد فاعلية العقل في تحديد ماهية أشياء مشتركة وتعميمها بكلمة، والتجريد تجريد وقائع مادية أو معنوية. ولذلك كل قول لا يقوم على أساس المفاهيم والعلاقات بينها قول لا قيمة معرفية له.
القول الجمالي شأن آخر، لذلك الترابطات بين المفاهيم التي لا يمكن أن تشير إلى ما يقابلها في الواقع في القصيدة نسميها الصورة الشعرية.
تكمن المشكلة في خلع بعض المفاهيم على ما ليس واقعياً، الواحد مفهوم واقعي، تسمية المُتَخيل بالواحد استخدام غير عقلي للمفهوم. الاستخدام اللاعقلي للمفهوم لا يلغي المفهوم بوصفه أداة معرفية لفهم الواقع. عقل التصورات المتخيلة الخالي من المفاهيم، أو استخدامها في غير ما صيغت من أجله عقل ما دون المرحلة المنطقية الواقعية للتفكير. فالمفاهيم هي الأدوات المعرفية اللغوية، ولهذا فلكل علم من العلوم مفاهيمه الخاصة به. ولا يمكن لأحد أن ينتمي إلى أي علم إذا لم يتوافر على مفاهيمة. وإنتاج المفاهيم تدل على عبقرية اللغة وعبقرية العقل أيضاً.
ولا شك عندي بأن المبدعين العرب المتمردين على العالم وعلى العقل السائد وعلى اللغة هم حملة شعلة تنوير اللغة وتجديدها.