تشهد الحياة الثقافية بعامة، وعلى امتداد العصور، ظاهرة الترديد والإبداع، والتعصب للقديم، واستحسان التجديد والجديد. ولهذا فإن الصراع بين التعصب والانفتاح، والترديد والتجديد، وأنصار هذا وذاك، قديم ولا ينتهى ولن ينتهي.
يبرز العقل الصندوق بوصفه عقلاً لا يفكر إلى بذلك المخزون الميت الذي يحوله إلى خطيب الترديد، والصندوقيون هؤلاء يقفون بالمرصاد أمام كل قول جديد شكّل انزياحاً عن مألوفهم من القول. فهذه العقل لا ينتج خطاباً، بل يردد قول الخطيب دون أن يجهد نفسه بحظ من التفكير ولو كان قليلاً.
ليس هذا فحسب، بل يتحلق حول العقل الصندوقي مجموعة من القرّاء يجعلون من مخزون الصندوق مدخلاً وحيداً للقراءة، ويذمون كل قراءة تختلف معهم ولها مدخل تختلف عن مدخلهم. وهنا تكمن الطامة الكبرى.
فإذا كان العقل نفسه صندوقاً، فما بالك بتلميذ الصندوق، وموقف تلميذ الصندوق من النص الجديد. وغالباً ما يكون تلامذة الصناديق أكثر عنفاً من الصناديق أنفسهم. وهذا أمر قابل للفهم ولكن ليس للتبرير. فأنت إذا تجاوزت مرجع الصندوق في هذا المبحث المعرفي أو ذاك، وأظهرت هشاشة وعي الصندوق، فما الذي يتبقى من تلميذ الصندوق؟
العقل الصندوق عقل مغلق، ليس مهماً ما يختزن، إن كان تحفاً قديمةً أو لباساً بأزياء جميلة، مجوهرات حقيقية أو مجوهرات زائفة، حكماً موروثة أو قيلاً لغواً، نصوصاً دنيوية أو نصوصاً لاهوتية. صحيح بأنه يعرض مخزونه الذي جمعه من هنا وهناك، لكنه يحتفظ بروح الصندوق.العقل الصندوق يستظهر، يمتثل، يجمع، يشاجر ويشتم ويُعتم.
لا يحسبن أحد بأن العقل الصندوق صفة أخلاقية خاصة بالتيارات الأصولية العنفية والأيديولوجية الدينية فقط، وإنما التعصب الصندوقي بنية أخلاقية عدوانية تجاه الآخر المختلف. علماني عدمي تجاه الدين يكتب بك وإليك جمل المديح التي تخجل من قراءتها، ما إن تختلف معه في رأي أو موقف، حتى يتحول المديح إلى هجاء وقح. التعصب ذهنية أخلاقية مدمرة للتعايش وللفردية الحرة والمتحررة.
لما كان العقل الصندوق عقلاً متعصباً فهو مستقل بذاته. هو دين قائم بذاته مهما كان القناع الأيديولوجي له، القومية، الدين، العلمانية، الطائفية، العنصرية.
التعصب دين المجرمين، عبدة القوة الهمجية، الذين لا يجيدون إلا فنون القتل، أسرى الجهل المقدس – لاهوت الظلام.