يمكن لأساتذة العلوم السياسية استخدام زيارة الرئيس إلى البنك الوطني الفلاحي في درس (الشعبوية)، لأن فيها الأساسيات التي يقوم عليها هذا الاتجاه السياسي، وأولها صورة الرئيس القوي. فمنذ اللقطة الأولى يظهر الرئيس وهو يتجه رأسا إلى هدفه دون انتظار أي استقبال بروتوكولي.. وتتجلى (القوة) في طريقة مخاطبته المسؤولين عن البنك وحالة الذل والمهانة التي كانوا عليها.
الرئيس وجه في هذه الزيارة رسائل مشفرة إلى الجمهور تتنزل في صميم الفكر الشعبوي، فالبنوك (وهي المؤسسات العمومية الوحيدة غير المفلسة) مؤسسات فاسدة وغير جديرة بالثقة لأنها تعطي من أموال الشعب قروضا للأغنياء بلا ضمانات. ومن هؤلاء الذين يتمعشون من أموال الشعب دون وجه حق من ينتمي إلى قطاع الإعلام ويطالب بحرية التعبير!
هي حزمة من الأفكار يلقيها الرئيس على الجموع كمن يصبّ الزيت فوق النار أو يرش الملح على الجراح المتعفنة، فتؤدي مباشرة وبشكل لا واع إلى تثبيت أوتاد خيمته الانتخابية في نفوس مريديه: أولا نظافة الرئيس وتصديه بنفسه ودون مساعدة أحد لكشف الحقائق، ثانيا: فساد النخب وخاصة تلك التي تطالب بالديمقراطية، ثالثا: فساد مؤسسات الدولة المتوارث من العشرية السابقة وما قبلها (ما يشرع لهدمها)، وأخيرا الشعب (ليس فقيرا ) بل مُفقّر لأن أمواله تنهب في الداخل قبل الخارج..!
قد يبدو المشهد عفويا في الظاهر لكن من الواضح أنه (مخدوم) بعناية فائقة، لعلاقته أولا بانسداد الآفاق وتوجيه أصابع الاتهام للرئاسة بالفشل في مواجهة الأزمات المتراكمة، ولعلاقته باقتراب الانتخابات (نظريا) والحاجة إلى نوع من المحاسبة وتحميل المسؤوليات عن الفشل ولو شكليا.
وأمام هذا الإغراء الشعبوي من الضروري أن يتحصن الجمهور (وأنى له ذلك) بمقاربة عقلانية لتفكيك مختلف الشفرات التي ينهض عليها الخطاب الرئاسي ووضعها في إطارها الصحيح، فحديث الرئيس عن ملفات (كونها بنفسه) لا يعلي من شأنه بل يشير إلى أزمة الثقة التي يعاني منها ولم يستطع تخطيها، بل ويعطي الانطباع بأن الرئاسة تشتغل بتقارير الوشاية التي تستهدف أشخاصا معينين، ولا تقارب الظواهر في كليتها. كما إن المتلقي في حاجة إلى معرفة ما إذا كانت القروض التي أعطيت بلا ضمانات هي نتيجة تجاوز فردي من قيادة البنك (وهذه حالة تستوجب أولا فتح تحقيق قضائي) أم إن الأمر نتيجة قوانين في حاجة إلى التغيير لأنها تعطي امتيازات لفئة دون أخرى من المتعاملين مع البنوك. وهذا في كل الأحوال أهم من صرف الجهود في معرفة اسم الشخص الذي حظي بهذا الامتياز!!
ولكن من المؤكد أن العملية حققت أهدافها، وجعلت الرئيس يتقدم بمفرده أميالا في السباق الانتخابي الذي لا يوجد فيه غيره حتى الساعة. رغم أنه من الصعب إقناع المنبهرين بأن ذلك المشهد يصلح للانتخابات أكثر من أي شيء آخر، حتى لو ذكرتهم بخرجات أخرى سابقة مثل زيارة النفق المؤدي إلى بيت السفير الفرنسي أو زيارة مخازن الحديد والبطاطا والأدوية وقد كانت كلها بمثابة ملاحقةٍ حثيثة للوهم والسراب.