ما الذي سيبقى من منجزات الحضارة المعاصرة، ذاك الذي سيحيا بعد اندثارها، ويصبح لصيقا بها حتى تُعرَفَ به إذا عزّ تتبّع آثارها؟ ستضيق جردة الحساب كلما دققنا في تفاصيل ما أتاه الانسان في القرون الثلاثة الأخيرة، وهي التي طبَعَتْ الدورة الحضارية الغربية التي تفتّحت أفنانها مع القرن الرابع عشر، وتعوْلَمَتْ لاحقا لتبسط هيمنتها على الكون برمّته.
ولعل واحدا من أهمّ ما تميّزت به هذه الحضارة، ولم يشاركها فيه غيرها، هو ما يمكن أن نطلق عليه "حرمان الانسان من المعنى" … لا بالالتجاء إلى القوة القاهرة، بل بـــ"إغراقه في المعنى".
وقد تفطّن عدد من الفلاسفة إلى ذلك الخطر الداهم مع نهاية القرن العشرين، فابتدع برنارد نويل في حدود عام 1975 لفظة Sensure، وهي تختلف عن المنع من القول، أو "الحرمان من الشيء" (Censure)، الدارجة في كل الثقافات والأزمان، لذلك عرّف المصطلَح المُبْتَدَع كما يلي:
" وكلمة Sensure تدل على الحرمان من المعنى وليس الحرمان من الكلام [Censure]. الحرمان من المعنى هي الصيغة الأكثر دهاءً لغسل الدماغ، لأنه يتحرك دون علم الضحية. ويعمل تقديس المعلومات على تحسين ذلك الحرمان أكثر فأكثر عبر الظهور وكأنه يخنقنا بالمعرفة. […] [إن ذلك الدفق من] المعلومات… يقودنا بشكل عكسي إلى معرفة فارغة، لأنها مسطحة، ولأن كل شيء فيها يتساوى." (L’outrage des mots)
بل إن بعض علماء النفس قد اكتشفوا طريقة في العلاج النفسي تحقق "الصحة النفسية للمسجونين" من خلال شعار إعطاء معنى لحياة هؤلاء ومستقبلهم (فيكتور فرانكل؛ الانسان والبحث عن المعنى، 1974).
ولكني أعترف أن أبلغ عنوان شدّ انتباهي في السنوات الماضية، ويعبّر عن جوانب من حالة "السيولة" تلك، كتاب (جاك بوفريس؛ القول والقول الذي لا يقول شيئا: اللامنطق والاستحالة واللامعنى. ترجمة محمد شاوش، 2019)، رغم انشغاله حصرا بدلالة الكلمة، و"ما تعنيه الكلمات وما نعنيه نحن" (الفصل 6) والتساؤل عن التفاوت بينهما.
تعويم المعنى … إفراغ المعنى من المعنى … القول الذي لا يقول شيئا … كلها أدوات (صياغاتٌ في الكلام تحاول تثبيت محتوى ألفاظ متمنّعة عن قول المعنى) تصف كأبهى ما يكون حالة الاغتراب الذي يعيشه الانسان اليوم.
تسريح المعنى عبر إغراق الساحة بالمعنى يكون بالمزايدة في إعلاء الصوت بالشعار، وبدفق المعلومات والصور الخاصة به.
أنْظُرْ مِن حولك … ستجد أن أجلى ساحاتٍ تتم فيها تلك المعركة وأخطرها، وبمشاركة الجميع، هي ساحة الدين وساحة العلم وساحة السياسة.
في سوق "مجتمع الفُرجة" كما يسميها عبد السلام بن عبد العالي (1999) يُغرقونك في يمّ مفاهيم المواطنة والدولة المدنية وحقوق الانسان … الخ !!! تتحلل المدلولات وتتفسّخ الوقائع من بين أصابعك وأنت تظنّ تملّكها. كل الناس في كلّ الأماكن وفي جميع الأوقات يَرْطُنون بتلك المفاهيم، ولكنهم يُعلُون الصوت في "معرضٍ" تُفرَضُ فيه المفاهيم على الأشياء (في تحليل الصديق نبيل عبد الفتاح لنظرية تيموثي متشل)، فتغرَقُ دلالة تلك الكلمات ويغيب تعيّنها في واقع حياة الناس بكثرة الحديث عنها وإبهار أعيننا بالصور المتدفقة حولها.
نفس الظاهرة نلمسها في ساحة العلم ومؤسسات المعرفة. أنظر واقع جامعاتنا ومدى تعيّن دلالات الألقاب التي يحملها جامعيونا على واقعهم. تمعن في عملية الإغراق الهائلة التي تقوم بها دوائر بحثية لساحة الأكاديميا وستتأكد من عملية إفراغ سوق المعارف عندنا من معناها؛ فأن يقصفك مركز بحثي لم يتجاوز عمر تأسيسه العقد من الزمن بأكثر من عشرين مجلة … "محكّمة" … وبأكثر من ثلاثين مؤتمرا علميا، في كل الاختصاصات والمواضيع والمقاربات !! وأن "يفرض" آخر على ناظِرَيْك إعلانات بصرية مختلفة لندوات أسبوعية في موضوعات متنوعة جدا وبأسماء باحثين لم يتخطّوا بعدُ العتبة الدنيا من التجريب البحثي باعتباره مسؤولية … الخ، فيعني ذلك أننا نُفرغُ المعنى من معناه … فحسب.
أما عن ساحة الدين فحدث ولا حرج. لن أتوسع في الأمر، وسأضرب نموذجا واحدا للتنبيه لا للحصر. تأمّلوا في القفز الصاروخي لظاهرة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف على سبيل المثال في السنوات القليلة الماضية … توسّعًا في جحافل المشاركين وأصنافهم، وتنويعا لطقوسه وتقاليده، وتزيّدًا في إظهار المشاعر تجاهه، وإكثارًا من الكلام حوله … الخ. هل يُترجِمُ كل ذلك الاحتفال تطورا "فارقا" في محبّة النبي ؟ إطلاقًا !!!!
يبدو أننا أمام حالة عامة من "حصاد اللامعنى"، أو بعبارة برنار نُويل "حرمان من المعنى" … عبر الإغراق المتعمَّد، والانخراط الطوعي. هي عملية غسل دماغ جماعي نساهم فيها بجدّ واجتهاد، فتضيع بوصلة القيم الهادية.