في هذا الوقت الذي يمارس فيه المحتل الجريمة بحق فلسطيني غزة والقدس ونابلس وسائر فلسطين المحتلة مدعوماً بدول الغرب وأمريكا يجب أن نعود إلى السؤال وماذا بعد ؟ هل هناك أفق للفلسطيني وخروج الصهيوني من مأزقه؟
قد يشي العنوان بأن صاحبه واقع في نزعة وطنية فلسطينية'أو خاضع لوعي منحاز لقضيته يفسد عليه مطلب الموضوعية ، فكيف لأحد ،في هذه الظروف ، أن يتحدث عن أفق للفلسطيني ومأزق إسرائيلي .
أن أكون ذا نزعة وطنية فلسطينية ومنحازاً إلى فلسطين قضيةً فهذا أمر طبيعي ولا سبيل لنكرانه أبداً .غير إن قولي لن يصدر عن هذين الأمرين فقط وإنما عن قراءة للحركة الواقعية للتاريخ المشرقي الآن أيضاً.
فمنذ إعلان قيام إسرائيل والفلسطيني يؤسس وعيه الذاتي على أن فلسطين هي الوطن الأم المحتل من قوة خارجية أخذت اسم دولة إسرائيل . وأسس ممارسته السياسية الثورية والسلمية على وعي كهذا. وفي المقابل فإن اسرائيل ومنذ قيامها تؤسس وعيها على حماية أمنها والحفاظ عل وجودها عبر القوة العسكرية والحماية الدولية الأوربية الأمريكية .لم يلغِ انتصارها في حرب حزيران وصمودها في حرب تشرين هذا الوعي بذاتها ، بل ظلت تحل مشكلاتها مع الفلسطيني بواسطة القوة العسكرية والدعم الأمريكي - الأوربي .
يكافح الفلسطيني كي يوجد في صورة يرضى عنها في فلسطين ، ويسعى الإسرائيلي للحفاظ على وجوده في فلسطين التى أخذت اسم إسرائيل. ولدت حرب ١٩٤٨ اعتقاداً لدى السياسي الإسرائيلي بأن الخطر على إسرائيل آتٍ من العرب متفرقين أو مجتمعين ، كما خلقت لدى الفلسطيني يقيناً بأن العرب هم الأساس بتحرير فلسطين . والحق إن اشتراك الفلسطيني والإسرائيلي في النظر إلى مكانة العرب في الصراع قد حدد علاقة الفلسطيني والإسرائيلي بالمستقبل ، و بمفهوم القوة .
حتى عام ١٩٦٥ لم يكن لدى الفلسطيني شك في قدرة العرب على تحرير فلسطين حتى وجد الفلسطيني نفسه في وعي جديد بقضيته يقوم على استقلال نسبي للإرادة الوطنية الفلسطينية وترابط مع الإرادة القومية العربية ،وبالمقابل لم يكن الاسرائيلي مكترثاً بالفلسطيني سواء الفلسطيني الذي بقي داخل الدولة أوالفلسطيني في المملكة الأردنية الهاشمية و الخاضع للإدارة المصرية ،والعائش في مواطن اللجوء .ولأول مرة بعد الثورة وجد اليهودي الذي صار إسرائيليا نفسه أمام اللاجئ الفلسطيني المدعوم عربياً و الذي نفى وجوده أصلاً .ثم جعلته حرب حزيران في وضع المواجهة اليومية مع غزة والضفة . وهكذا مع تنوع حالات الصراع والمواجهة صار الفلسطيني في كل أماكن وجوده جزء من وعي الإسرائيلي بوجوده حتى لو أنكر ذلك على مستوى الخطاب .
وعوضاً عن أن يواجه الواقع بعقلانية الإعتراف به قرر أن ينفيه مأسوراً بالأيديولوجيا والخوف.فوقع في مأزق وجودي صعب كما سأبين ،فيما ظل الفلسطيني محتفظاً بالأفق بواقعية سمحت له بالتعامل مع الواقع رغم الأيديولوجيات النافية لإسرائيل .
دخلت إسرائيل حال المأزق والذي قد يطول لعدة أسباب :
أولا: اختلاف الشرط التاريخي بين نشأتها و وجودها الراهن ، وعدم رؤيتها لهذا الأمر ، سواءٌ كان شرطاً فلسطينياً أو شرطاً عربياً أو شرطاً عالمياً ،بكلمة واحدة ،فإذا كان الشرط التاريخي العالمي الإستعماري أدى إلى قيام إسرائيل بوصفه حلاً لما سمي بالمسألة اليهودية فإن وجودها ،وخاصة بعد نهاية الحقبة الإستعمارية ،ونشوء الوعي الفلسطيني والممارسة الكفاحية في الداخل والخارج قد ولد المسألة الفلسطينية .وبولادة المسألة الفلسطينية دخلت إسرائيل مأزقاً عميقاً إذا إن الدول الإستعمارية نفسها التي انتجت الدولة الإسرائيلية اعترفت بالمسألة الفلسطينية وضرورة حلها. و اللحظة الوحيدة التي اعترفت فيها إسرائيل بالمسألة الفلسطينية هي لحظة أوسلو .
ثانياً: في الوقت الذي احتفظ فيه الفلسطيني بمفهوم القضية الفلسطينية بوصفها قضية شعب تعامل مع قضيته بوصفها مسألة شرق أوسطية ثم بوصفها مشكلة فلسطينية .وهو بهذا وسع إمكانيات مستقبله السياسي .فمفهوم القضية انطوى على إزالة إسرائيل كدولة وعودة فلسطين والمفهوم المطابق لمفهوم القضية هو التحرير. بانتقاله إلى النظر إلي قضيته بوصفها مسألة انتقل إلى أمكانية التسوية الدولية ، وباعتباره قضيته مشكلة صار يبحث عن إمكانية الحل .
لقد وصل الفلسطيني ممثلاً بمنظمة التحرير حداً قال فيه لليهودي : الأرض تتسع لي ولك ،فولد بقوله هذا جملة ممكنات : ممكن العيش المشترك في دولة ثنائية القومية ،ممكن الدولة الفلسطينية المتعايشة مع الدولة الإسرائيلية ،إمكانية كونفدرالية ،فوسع من أفقه السياسي والعملي ، لكن الجواب الإسرائيلي غالباٌ ما جاءه في قول فصل : الأرض لا تتسع إلا لي .وبالتالي رفض كل الحلول المكنة ، وبرفضه الحلول الممكنة والنظر إليها على أنها تهديد لوجوده وقع في المأزق التاريخي وهو البحث عن حل مستحيل ، والمستحيل لا وجود له أصلا إلا في الذهن.ولهذا فإن الإعتراف بالفلسطيني في أوسلو من قبل الإسرائيلي لم يشهد تطوراً الى حد الإعتراف بأحد الممكنات ، بل على العكس ،فلقد عاد الإسرائيلي الى حالة نفي الواقعي داخلاً في المأزق الوجود ألا وهو الخوف من ضياع الوجود .
وهكذا ،فنحن أمام وجودين وجود فلسطيني حقيقي مسلوب الحق لديه إحساس بوجوده الدائم دون خوف على وجوده ويمتلك الحياة أفقاً بوصفه الساكن الأصلي لفلسطين وقادر على استعادة وعيه بفلسطين قضيةً في محيط عربي يسمح بذلك ،و وجود اسرائيلي سالب الحق لديه إحساس دائم بالخوف على وجوده متورط في عالم غير عالمه و واقع في مأزق تاريخي، ويعتقد بأن القوة العسكرية وحدها هي التي تحميه.