لا ينتمي الكلام المعسول بحق اللغة، أية لغة، إلى العقل المفكر، بل هو إلى لغة العجز أقرب. فكل قول عن حال اللغة ليس سوى قول عن أحوال العقل المتعين. فلنحدد أحوال عقلنا كي نحدد حال لغتنا؟
ولعمري بأن أهم مثالب العقل العربي اليوم، هذا الانفصال بين اللغة والواقع. وانفصال كهذا يحرم اللغة من إحدى أهم وظائفها، وظيفة امتلاك الواقع. كما يحرمها من قدرتها على تجديد روحها الخلاقة. حتى ليمكن القول بأن الانفصال بين اللغة والواقع مظهر من مظاهر موت اللغة.
والمتأمل بالخطاب السياسي والخطاب الديني والخطاب الأخلاقي والخطاب الشعري التقليدي، يجد ما يمكن تسميته باغتيال اللغة، فاللغة هنا ساكنة لا حياة فيها، ومفرداتها منبتة، وجملها زبد.
ففي الوقت الذي يحملنا الواقع على تجديد خطاب السلطة بارتباط بمفهوم الحرية، مازالت لغة خطابات السلطة تعبيراً عن الاستبداد بصورته القديمة والأكثر تخلفاً ومستعيرة المصطلحات التي يجب أن تكون قد بادت بفعل تطور الوعي والأحوال. فأين نجد المعادل الموضوعي لمصطلح "سيد الوطن"، في وطن يعيش حال تأفف الأحرار أملاً بالمساواة وتحقيقي مركزية الإنسان.
ماذا يعني أن تكون اللغة المعبرة عن الأحوال المعيشة بمفردات تنتمي إلى لغة الفقهاء الأقدمين.
ماذا يعني محاكمة القيم المتجددة بلغة تنتمي إلى عصر القطيع والحلال والحرام، ماذا يعني الاحتفال بقصائد مدح وذم وفخر وهجاء، في وقت تحولت فيه أغراض الشعر إلى التجربة الملحمية للإنسان فرداً وجماعةً.
فهذا العقل الذي يغتال اللغة، وينتمي إلى عالم القبور هو الخنجر الدائم الذي يغتال العربية بكل حقد على روحها الوقاد.
لقد فجر رواد النهضة العربية ينابيع اللغة العربية التي سُدت في عصر الانحطاط، وأكدوا لنا العلاقة التي تقوم بين اللغة والانحطاط، واللغة والنهضة. فشتان بين لغة الأفغاني والكواكبي وعبده وعلي عبد الرازق ولغة أسلافهم.
لماذا؟ لأنه لا انفصال بين العقل واللغة، بين تجدد الروح التاريخي وتجدد اللغة، بين حركة الحياة وحركة اللغة.
وحسبنا القول بأن المعجم العربي متخم بالكلمات الميتة التي كفت عن التداول وآية ذلك فقدانها العلاقة بواقع جديد كل الجدة، فضلاً عن أن اللغة في حقيقتها تواضع.
من منا لا يحتاج إلى معجم ليشرح قول النابغي:
إلا الأواري لأياً ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
ردت عليه أقاصيه ولبده ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد
فالأوراي والنؤى والمظلومة الجلد والوليدة والمسحاة كفت عن التداول لأن الحياة لم تعد تتضمن ما تدل عليه هذه الكلمات.
فانفجار اللغة انفجار للحياة.
ولأن اللغة والحياة في ترابط لا ينفصم، كما أكدنا أعلاه، فإن إغناء المعجم العربي بكلمات تدل على ما جد من أشياء أمر يتطلبه العقل وتتطلبه الضرورة والتفكير والمصلحة والتواصل.
وليس يضير اللغة أي لغة تعريب الكلمات الأجنبية إذا لم تكن ترجمتها ممكنة أو إن لم تجد الترجمة سوقاً لها في التداول. والتعريب هو إبقاء اللفظ في لغته الأصلية مع تكيفه مع اللسان العربي. ككلمة سينما وباص وتلفزيون وراديو وفيروس وبكتيريا الخ. ونحن اليوم إذ نشهد ثورة في المعلوماتية وتقنياتها لا نستطيع أبداً أن نتفاهم في أمورها دون تعريبها إذا لم نفلح في ترجمتها،أو لم تفلح الترجمة في جعل الكلمة المترجمة عربياً تواصلية. فها هو يذهب إلى مصلح الكمبيوتر فيقول له المصلح إنه يحتاج إلى (فرمتة) فيجيب الزبون: حسناً (فرمته). فهذه الكلمة صارت في حقل التداول: فرمت يفرمت مفرمت تفرمت الخ. ماذا يضير المعجم العربي أن تغدو هذه الكلمة في عداد كلماته. وقس على ذلك كلمات مسج وبوست.
وهناك أمر مهم جداً ألا وهو أن أصحاب معاجم اللغة الأقدمين ذهبوا إلى البادية وثبتوا الكلمات المتداولة في معاجمهم، فلماذا لا نثبت كلمات اللغة المحكية المتداولة غير الواردة في المعاجم في معاجمنا إذا كانت أقدر على التعبير عن المعنى. فكلمة شرشح كلمة متداولة ومعناها هزأ وبهدل. وقد يكون مصدرها الفعل شرّح فلماذا لا تكون كلمة معجمية: شرشح فعل رباعي يشرشح شرشحة وشرشوح للمذكر وشرشوحة للمؤنث. وهكذا.
ثم تأتي الترجمة وهي نقل معنى كلمة أجنبية إلى ما يطابقها من كلمة عربية. والحق أننا هنا أمام مشكلة قائمة بين مجامع اللغة العربية والمترجم ذاته. فقد نجد لكلمة أجنبية واحدة ثلاث كلمات عربية كما هو الحال مع الكلمة الإنجليزية aliénation وهو مصطلح فلسفي فقد ترجمه المترجمون إلى: الاغتراب والضياع والاستلاب ولم يتفقوا على كلمة واحدة وهكذا..
والحق أن مجامع اللغة العربية ليست في وارد إتعاب نفسها في إصدار معجم جديد تعاد طباعته سنوياً ويكون حاوياً على كلمات جديدة انطلاقاً مما ذكرت.
ويجب القول في النهاية: إن المتخصصين باللغة العربية ويعرفون نحوها وصرفها وأسلوبها ليسوا هم الجهة القادرة على تطوير المعجم العربي وإغنائه - كما هو حال أعضاء مجامع اللغة العربية الآن الذين يحفظون سيبويه عن ظهر قلب - بل العلماء في العلوم الإنسانية والصحفية والطبيعية والرياضية والهندسية والأدباء والشعراء الذين يواجهون مشكلة العلاقة بين اللغة وتطور المعرفة وبين اللغة والتعبير.
أما المسألة الأرأس فهي المتعلقة بمكانة المفاهيم المعرفية في اللغة، فاللغة هي العقل وما يختزن من لغة مفهومية. حجم المفاهيم تحدد حجم العقل ونوعه. لا يمكن تخيل مفهوم لا أساس واقعياً له، إذا يمكن ان نطلق الأسماء على تخيلاتنا، ولكن ليس كل اسم مفهوم. الغول اسم للمتخيل الذي ركبه العقل هو تصور وليس مفهوماً. لأن المفهوم تجريد، والتجريد فاعلية العقل في تحديد ماهية أشياء مشتركة وتعميمها بكلمة، والتجريد تجريد وقائع مادية أو معنوية. ولذلك كل قول لا يقوم على أساس المفاهيم والعلاقات بينها قول لا قيمة معرفية له.
القول الجمالي شأن آخر، لذلك الترابطات بين المفاهيم التي لا يمكن أن تشير إلى ما يقابلها في الواقع في القصيدة نسميها الصورة الشعرية.
تكمن المشكلة في خلع بعض المفاهيم على ما ليس واقعياً، الواحد مفهوم واقعي، تسمية المُتَخيل بالواحد استخدام غير عقلي للمفهوم. الإستخدام اللاعقلي للمفهوم لا يلغي المفهوم بوصفه أداة معرفية لفهم الواقع. عقل التصورات المتخيلة الخالي من المفاهيم، أو استخدامها في غير ما صيغت من أجله عقل ما دون المرحلة المنطقية الواقعية للتفكير. فالمفاهيم هي الأدوات المعرفية اللغوية، ولهذا فلكل علم من العلوم مفاهيمه الخاصة به. ولا يمكن لاحد أن ينتمي إلى أي علم إذا لم يتوافر على مفاهيمة.
وإنتاج المفاهيم تدل على عبقرية اللغة وعبقرية العقل أيضاً.
بقي أن نشير إلى أمرٍ في غاية الأهمية ألا وهو: اللغة بوصفها تواضعاً بين الناس. فما زال مدرسو اللغة العربية مشغولين بقل كذا ولا تقل كذا. فقد قالت العرب أكد الأمر وليس أكد على الأمر، لأن أكد فعل متعدٍ. حسناً، فإذا كان أكثر الكتاب يجعلون من أكد فعلاً لازماً، وتواضعوا على ذلك، فما الضير في أمر كهذا؟ لاسيما بأن القول: يجوز الوجهان قول مألوف عند أصحاب النحو العربي. فهل يريدنا فقهاء اللغة أن نجعل من اللغة الفصيحة لغةً منبتةً!
ولا شك عندي بأن المبدعين العرب المتمردين على العالم وعلى العقل السائد وعلى اللغة هم حملة شعلة تنوير اللغة وتجديدها.
وإذا كانت لغة التنوير في صراع دائم مع لغة الظلام، ولغة الفضاء في مواجهة لا تنقطع مع لغة الكهف فإن معركة الحياة لا يمكن أن تُخاض إلا بعقل شجاع وروح لائية تكشف عن ممكنات لغة لا تنضب.