في كل قرار سياسي هناك ثلاثة جوانب اساسية هي : القواعد القانونية التي تحدد الاختصاصات لمؤسسات صنع القرار ، وشخصية متخذ القرار ثم توجهات الرأي العام المحلي بشكل رئيسي، وأزعم ان القرار السياسي الاسرائيلي هو قرار في محصلته النهائية قرار مؤسسي، يلتزم صناع القرار فيه بالقواعد بقدر عالٍ نسبيا ويعطون اهتماما لتوجهات الرأي العام خوفا على نتائج الانتخابات الدورية.
وأود ان اتوقف عند هذه الابعاد الثلاثة لتحديد الخيارات امام الحكومة الاسرائيلية في ظل حرب طوفان الاقصى:
1- شخصية نيتنياهو: لقد سبق لي ان نشرت دراسة اكاديمية مطولة عن شخصية نيتنياهو مستفيدا من مناهج التحليل في علم النفس السياسي ، وخلصت الى ان شخصيته العامة تتسم بالعدوانية والنرجسية والبرغماتية وعدم المصداقية والمراوغة. أما عن موقفه في الصراع العربي الصهيوني، فهو يختزن كراهية عميقة للعرب ويقوم منظوره الديني والسياسي في الموضوع الفلسطيني على حق اليهود في العودة وفي اقامة الدولة اليهودية الخالصة ، كما أنه يستبعد أن ينتهي العداء العربي لـ”إسرائيل” في الجيل الحالي، ويعتقد جازما أن العرب لن يقبلوا بـ”إسرائيل” إلا بالقوة.
من جانب آخر فان لدى نتنياهو قدر من الذكاء يوظفه في كل ما يُمَكنه من النفاذ من المآزق المختلفة، لكنه إذا تعرض للمفاجآت الحادة فإنه يرتبك بشكل واضح ويعجز عن اتخاذ القرار المناسب.
2- ثمة شقاق وتوازنات قلقة في بنية المؤسسة السياسية التي يقودها ، فالوزارة الاسرائيلية الحالية تضم إئتلافا غير متناغم رغم السمة اليمينية له، وهو ما يجعل نيتنياهو يخضع لابتزاز القوى المشاركة معه في الحكومة، وهو ما لا يريده.
3- اتجاهات الرأي العام الاسرائيلي تلعب دورا في توظيف نيتنياهو لنزعته الميكافيلية لضمان حصاد انتخابي اكبر من ناحية وتغييب ملفاته التي تمثل سيف ديموقليس فوق راسه.
وهنا سنحاول دمج هذه المعطيات مع توجهات المجتمع الاسرائيلي وانعكاسات ذلك على السلوك السياسي العام ، وسنعتمد في هذا المقال على استطلاعات الرأي العام الاسرائيلي من خلال ما نشرته مراكز ذات علاقة بالموضوع خلال الفترة من شهر اكتوبر الى منتصف ديسمبر الحالي 2023 مثل : Israel Democracy Institute/ Tel Aviv University's Peace Index / the Peace Index poll/ Gallup..الخ، وسنعمل على ربط ذلك بموضوع الحرب في غزة وتداعياتها.
أولا: يتراوح معدل تأييد الشارع الاسرائيلي لإدارة نيتنياهو للمعركة وملابساتها السياسية ما بين 25-39%(حسب الاستطلاع)، وهو ما يعني ان نيتنياهو سيسعى لتحقيق اية نتائج ميدانية لتغيير هذه النسبة التي لا تؤهله للاحتفاظ بمركزه ودوره ، وبخاصة قلقه من الخيط الرفيع المعلق فيه سيف ديموقليس مثل احتمال العودة للصراع حول التعديلات القضائية وتُهم الفساد السابقة الى جانب اتهامات بالتقصير في الاخذ بالتحذيرات من جهات مختلفة بأن المقاومة تستعد لفعل امني كبير والقيام بإتلاف هذه التقارير .
ثانيا: تدل الاستطلاعات على أن 45% من الجمهور الاسرائيلي يريد تفاوضا مع المقاومة حول الرهائن "دون وقف اطلاق النار"، بينما يريد 40% تفاوضا مع وقف اطلاق النار، وهو ما يعني توازنا الى حد ما، وهو ما جعل نيتنياهو يجد حلا بأن يقبل "هدنة مؤقتة" يتم خلالها التبادل ، وهو ما يعني موقفا براغماتيا بين الرافض لوقف اطلاق النار وبين من يقبلون به.
ثالثا: ازدادت التصريحات من نيتنياهو ضد السلطة الفلسطينية لا سيما في الايام الاخيرة، ويبدو ان سبب ذلك هو:
أ- تزايد الاضطراب في الضفة الغربية مما اعتبره نيتنياهو قصورا في إداء سلطة التنسيق الامني لوظيفتها، فهدد بقطع الاموال عنها ،فقفزت ارامل اوسلو لتطالب "بمحاسبة حماس"،وهو ما يريده الجمهور الاسرائيلي.
ب- انخفاض نسبة التأييد بين الاسرائيليين للتفاوض مع السلطة الفلسطينية من 47.6% الى 24.5% ، مما جعله يحاول التناغم مع الرأي العام السائد بين الاسرائيليين.
ت- اتساع قاعدة التأييد للمقاومة بين سكان الضفة الغربية والتي وصلت الى 72%.
رابعا: يطالب 57.5% من الاسرائيليين بمزيد من الضغط العسكري على غزة بينما 36.6% يرون ان القوة المستخدمة حاليا كافية، ولعل استمراره في ضرب الاهداف المدنية يتوافق مع مسالتين هما:
أ- ان الحالة النفسية للمجتمع الاسرائيلي بقياس مؤشرات ثلاثة ابعاد هي القلق والتوتر والحزن تدل على ارتفاع واضح من 2006 (الخروج من جنوب لبنان) الى طوفان الاقصى 2023 ، فقد ارتفعت المؤشرات الثلاثة من 35% الى 60 % ، وهو امر يدفع بنيتنياهو الى مزيد من الضغط على المدنيين الفلسطينيين من زاوية جعل آلام الغزيين متنفسا لمكبوتات المجتمع الاسرائيلي، فرؤية الخصم يتألم يشكل ميكانيزميا سيكولوجيا لتفريغ المكبوتات المسببة للحزن والقلق والتوتر.
ب- أن فشله في التهجير القسري ، وتصاعد الخسائر البشرية بين قواته، والضغوط الشعبية عليه لفشله في تحقيق اعادة للرهائن او حتى لواحد منهم، اضافة الى ان استمرار المقاومة في نشاطها وقصف المدن الاسرائيلية وبخاصة من شمال القطاع الذي وعد بتطهيره، ناهيك عن تقارير دبلوماسيه من العواصم الدولية بالزيادة المضطردة في تشوه الصورة الاسرائيلية في الذهن العالمي ،مضافا لذلك التباين النسبي مع الولايات المتحدة في بعض الجوانب وبخاصة في موضوع المدنيين..كل ذلك يجعل قراراته في هذا الصدد مرتبكة لأنه "رغم ذكائه" فان نرجسيتيه تلح عليه من زاوية مقابلة ،وهو ما يفسر الارتباك في مواقفه، فهو يعيش ثنائية النرجسية والثقة العالية في النفس من ناحية وانجازات متواضعة حتى الآن قياسا لوعوده، بخاصة بعد تزايد اضرار حصار انصار الله من اليمن واشتداد نسبي لهجمات المقاومة الاسلامية في لبنان وبعض العمليات من الحشد الشعبي العراق.
خامسا: يواجه نيتنياهو موقفا مجتمعيا لا يتسق مع توجهات المجتمع الدولي الذي يطالب بحل الدولتين (الامم المتحدة التي تواترت انتقادات امينها العام له، وموافقة كل القوى القطبية على حل الدولتين ، واغلب اعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة) بينما يواجه مجتمعا يقول له 65% منه ان لا لحل الدولتين ، وأن 74% منهم يستبعدون اي سلام مع الفلسطينيين، وان 77% من اعضاء الاحزاب المتآلفة مع نيتنياهو تطالب بضم الضفة الغربية واستمرار الاستيطان فيها وباقامة دولة واحدة يُحرم الفلسطينيون فيها من امتيازات المواطنة.
الخلاصة : يبدو ان نيتنياهو لم يعد قادرا على "التراجع عن وعوده" مما يعني ان ضرباته ستشتد، كما أنه سيحاول الضغط أكثر على المدنيين على امل انهيار البيئة الاجتماعية الحاضنة للمقاومة، ويدرك ان الدول العربية لن تعترض على ذلك خارج النطاق الخطابي، ولكنه يخشى من احتمال اتساع رقعة الصراع اقليميا، وبلوغ خسائره البشرية حدا يضعه في موقف حرج ، ناهيك عن توجساته من حزب الله ومن تداعيات اغلاق البحر الاحمر على ملاحته ،وهذا التضارب سيزيده ارتباكا قد يدفعه الى عمل "غير عقلاني" أو يساعده العرب على النجاة من مآزقه .