من بين سمات العلاقات الفلسطينية الدولية سمة كاشفة لطبيعة تعقيدات الحياة الدولية المعاصرة، وتتمثل هذه السمة في الآتي:
أ- ان الدول الأقل مساندة سياسية للطرف الفلسطيني(الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي واليابان وبعض دول الخليج ) هي الاكثر مساهمة في تقديم المساعدات المالية لفلسطين، وتصل مساعداتها الاقتصادية الى حوالي 70% من اجمالي المساعدات الدولية.
ب- أن الدول الكبرى الأكثر مساندة سياسية للطرف الفلسطيني هي الاقل مساهمة في تقديم المساعدات لفلسطين مثل الصين وروسيا ..الخ، فهذه الدول تقع في مراتب متخلفة عند ترتيب الدول حسب مساعداتها الاقتصادية لفلسطين، فالصين تحتل المرتبة 36 بينما روسيا تأتي في المرتبة 32 بين الدول المساهمة في مساعدة وكالة الغوث او للسلطة الفلسطينية.
يترتب على ذلك ، ان قيادة المقاومة في مرحلة ما بعد معركة طوفان الاقصى ستواجه "الابتزاز الأسود " من القوى الغربية لمساندتها في إعادة الاعمار في ظل دمار شبه شامل في البنية التحتية وعشرات آلاف الايتام والارامل ناهيك عن الجرحى والمهجرين ، وسيتخذ الابتزاز مسارا محتملا على النحو التالي:
1- ربط المساعدات بموعد عقد مؤتمرات لجمع المعونة لإعادة الاعمار:
أي ان الغرف المغلقة ستعرف مقايضة بين تقديم مواعيد عقد مؤتمرات المساعدة وبين الاستجابة لشروط سياسية معينة تدور حول التضييق على خيار المقاومة وتوسيع صلاحيات سلطة التنسيق الامني وضمان أكبر قدر من متطلبات الأمن الاسرائيلي.
2- ربط حجم المساعدات بشروط سياسية :
فكلما كان التبرع اعلى كانت الشروط السياسية اقسى، مثل مطالبة المقاومة الاعلان عن القبول بالشرعية الدولية (أوسلو واخواتها) او التنازل في موضوعات الاسرى او القدس أو...الخ.
3- ربط تسليم المساعدات بشرط الاشراف على انفاقها:
وهو ما يعني ان المساعدات يجب ان تذهب في الاتجاهات التي لا تصب في مصلحة المقاومة، مثل حرمان اي عضو في المقاومة من الاستفادة من هذه المساعدات من خلال تشديد الرقابة على عمليات الصرف.
4- دبلوماسية الإنابة:
من المؤكد ان الوسيط القطري في اطار "دبلوماسية الإنابة"(Proxy Diplomacy) سيحاول زيادة المساعدات من باب الغواية لقبول الشروط الامريكية الاسرائيلية "، فمن مأمنه يؤتى الحَذِر"، وتجربة المقاومة اللبنانية مع مساعدات قطر عام 2006 تعزز هذا الهاجس ويكشفه ما لحق ذلك بعد سنوات قليلة.
5- إذا كانت التقديرات الاولية ترى ان غزة بحاجة (حتى هذه اللحظة) الى اكثر من خمسين مليار دولار ، فان بعض الصحف الغربية اشارات الى تردد امريكي أوروبي في المساعدة في ظل العسر الاقتصادي الناتج عن ازمة اوكرانيا وغيرها ،وتأثيرات الحرب التجارية مع الصين وكل تداعيات التوتر العام في المجتمع الدولي. وسيتم استخدام ذلك لا لتخفيض المساعدة بل لزيادة شروطها.
ذلك يعني أن على قيادة المقاومة ان تستعد لمعركة سياسية اقتصادية قد لا تقل ضراوة وقسوة عن المعركة العسكرية، وسيتم ابتزاز المقاومة من طرف سلطة التنسيق الامني واغلب الدول العربية واغلب كبار المساهمين في المساعدات بخاصة الدول الغربية، فالصين وروسيا تريا أن موقفهما السياسي يعوض قصورهما الاقتصادي،بينما ترى القوى الغربية ان دورهما الاقتصادي يجب ان يكون له ثمن سياسي.
وعليه على قيادة المقاومة التفكير من الآن في نقطتين:
1- السعي لرفع كل من الصين وروسيا وايران والكويت والجزائر والعراق وفنزويلا وماليزيا ودول اسلامية اخرى مساهماتهم في اعادة الاعمار.
2- استنهاض القوى الشعبية لجمع التبرعات من الافراد والهيئات والشركات والبنوك العربية والاسلامية لتخفيض نسبيا درجة الاعتماد على مساعدات الغربيين،وكلما كان مستوى الدعم من الجهات الغربية أقل كانت شروطهم السياسية أقل والعكس صحيح.
3- محاولة رفع دعاوى في المحاكم الدولية على اسرائيل لتدفع تعويضات عن التدمير الذي الحقته بمؤسسات اممية تابعة لفروع الامم المتحدة من مدارس ومستشفيات ...الخ.ولعل مبادرة المحامي الفرنسي "جيل دوفير" لحشد قضاة دوليين لتقديم دعوى ضد اسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية وتقديم جنوب افريقيا دعوى ضد اسرائيل لدى محكمة العدل الدولية هي مبادرات تستحق المساندة ، فحتى لو لم نصل لنتيجة مالية ، فسنصل الى نتيجة سياسية واعلامية على الاقل، ناهيك عن أن اسرائيل سبق وأن دفعت تعويضات لتركيا عام 2013 كتعويض عن حادث سفينة مرمرة التركية، كما دفعت للأمم المتحدة تعويضات عن مبان لها دمرها القضف الاسرائيلي في معارك 2008 في غزة، وهو ما يعني سوابق تاريخية يمكن الاستناد لها.