من يقرأ كتاب الكاتب الاسرائيلي ماتي غولان ( Matti Golan ) الصادر عام 1976 وعنوانه (The Secret Conversations of Henry Kissinger: Step-by-step Diplomacy in the Middle East.) يتبين له ان ال 280 صفحة التي يشتمل عليها الكتاب تكشف عن جوهر دبلوماسية المكوك(والخطوة خطوة) التي وضع وزير الخارجية الامريكي السابق هنري كيسنجر اصولها، وتقوم هذه الدبلوماسية على نفس المنهج الذي وصف فيه امير الشعراء احمد شوقي تنامي العلاقة العاطفية بين المحبين: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء.
وتنطلق دبلوماسية المكوك من نقطة جوهرية هي تحديد أولا " الموقف الحقيقي لا الدعائي" لأطراف المشكلة التي يراد معالجتها، ثم البحث في افضل الطرق والمواقف التي تساعد كل طرف على الانتقال من الموقف الدعائي الى الموقف الحقيقي ،وتشترط هذه الدبلوماسية ان يتم هذا الانتقال عبر خطوات تدرجية توحي للمتابعين ان الاطراف لم تغادر موقفها "الدعائي" من خلال صياغات لفظية قابلة للتأويل لاحقا كخطوة أولى باتجاه الموقف الحقيقي،فالمُحب يموه نظرته الاولى بانها تعني الاهتمام "النزيه"، وما أن يطمئن الى قبول هذا المعنى حتى ينتقل الى الابتسامة التي توحي بلفت نظر الطرف الآخر،ثم السلام فالكلام فالموعد فاللقاء...وصولا لإحضار المأذون الشرعي أو غير الشرعي.
لقد مرت السياسة السعودية تجاه اسرائيل بخطوات تدثرت كل مرحلة منها بغطاء مختلفة ألوانه توطئة للمرحلة اللاحقة منذ البداية ، وساهمت المكانة الدينية والبترول والمساندة الامريكية والتخلف الاجتماعي في تيسير كل هذه الخطوات ، ولكي لا أثقل على القارئ السرد التاريخي، سأبدأ عرض الخطوات من 1981 عندما سمحت السعودية دون ضجيج وبمواربة اعلامية للطائرات الاسرائيلية بعبور اجوائها لضرب المفاعل النووي العراقي،ومع اعلان السعودية عن المبادرة العربية واجتماعات بيروت لمناقشتها عام 2002 تمكنت من تعميم فكرة العلاقة مع اسرائيل على الموقف العربي بشكل عام رغم بعض المتحفظين ، وبعد ثلاثة اعوام (2005) ترتب على انضمام السعودية الى منظمة التجارة العربية القبول باعتبار السلع المنتجة اسرائيليا "غير ممنوعة" من التداول في الاسواق السعودية ولو نظريا، ثم بدأ التسريب المتعمد من الصحافة الاسرائيلية والغربية عن لقاءات بين مسؤولين اسرائيليين وسعوديين خلال الفترة من 2014 الى 2017،وهو ما يتضح في مقالات الصحفي البريطاني الشهير ديفيد هيرست والمعروف بتخصصه في الشأن الشرق اوسطي والذي كشف عن لقاءات أمنية اسرائيلية سعودية لتنسيق المزيد من الضغط على المقاومة الفلسطينية بخاصة في جناحها الديني وبخاصة خلال حرب 2014 بين المقاومة واسرائيل، وخلال السنوات الثلاث اللاحقة تم تمويه نتائج هذه اللقاءات بالسماح للحجاج الحاملين جوازات سفر اسرائيلية من سكان فلسطين 1948 بأداء فريضة الحج، وبتوظيف اعادة مصر لجزيرتي صنافير وتيران للسعودية الى اضفاء شرعية على عبور السفن الاسرائيلية مضيق تيران التي تقع ضمن المياه الاقليمية السعودية، ناهيك عن بدء لقاءات استخبارية بين ضابط المخابرات السعودي المتقاعد انور عشقي مع نظرائه الاسرائيليين وبخاصة دوري غولد لبحث التنسيق بين الطرفين ضد ايران، وهو ما تعزز بتأكيدات وزير الطاقة الاسرائيلي يوفال ستينيتز عام 2017،ثم تم الانتقال الى خطوة اللقاء المباشر والعلني عندما وصل وفد اكاديمي وتجاري اسرائيلي الى السعودية عام 2016،وعندما اشتعلت الحرب اليمنية عام 2017 كشفت القناة العاشرة الاسرائيلية عن برقية وجهتها الخارجية الاسرائيلية لسفرائها في كل دول العالم لدعم الموقف السعودي في الحرب على اليمن، وتجلى ذلك في حوار بين المسؤول العسكري الاسرائيلي غادي إيزنكوت مع الاعلام السعودي، وبعدها بدأت الحملات ضد رجال الدين السعوديين ممن يعادون اسرائيل ،وتطور الامر في عام 2018 بالسماح للطائرات الهندية المتجهة من والي اسرائيل بالعبور في الاجواء السعودية ليتطور الامر عام 2020 الى السماح للطائرات الاماراتية بنفس الترخيص للذهاب والاياب الى اسرائيل عبر الاجواء السعودية ، وتأكد التوجه السعودي ضد المقاومة الاسلامية عام 2019 عندما اعتقلت السعودية الدكتور محمد الخضري ممثل المقاومة الاسلامية الفلسطينية في السعودية وحكمت عليه 15 عاما في عام 2021 دون توجيه اية تهمة له، وتم تخفيض الحكم عليه لاحقا الى 3 اعوام الى ان افرج عنه العام الماضي.
ودخلت السعودية المرحلة ما قبل الاخيرة في العلاقة مع اسرائيل بإعلانها عن الاستعداد للتطبيع الكامل مع اسرائيل ، لكنها ربطت ذلك بمطالب من امريكا (مثل السماح لها ببرنامج نووي سلمي،وتخفيف بعض قيود التسليح الامريكي للسعودية وتقديم ضمانات امنية امريكية للسعودية،) وبمطالب من اسرائيل بالاعتراف بدولة فلسطينية ووقف الحرب في غزة، لكن التطبيع بدأ قبل تحقيق اي من الشروط المطلوبة من اسرائيل او من امريكا ، ودلالة ذلك حضور اسرائيل الرسمي في السعودية ،كان الاول حضور وزير السياحة الاسرائيلي حاييم كتس في سبتمبر 2023 الى السعودية للمشاركة في مؤتمر للأمم المتحدة ، وتبع ذلك وزير الاتصالات الاسرائيلي من حزب الليكود شلومو كرحي والذي تحدث عن الممر الاقتصادي الهندي الاوروبي الذي يمر من السعودية والامارات والاردن وصولا لإسرائيل.
إن الموقف السعودي محكوم بعوامل محددة:
أ- العداء لاي تنظيم أو ايديولوجيا او فكر سياسي مستقل يدعو للديمقراطية الحقة (فالسعودية تعادي الليبرالية الديمقراطية والشيوعية والاشتراكية والقومية والاسلام السياسي )لان كل من هذه التوجهات تعادي النظم القائمة على حكم العائلة،وعليه فهي على استعداد للتعاون مع اية جهة تساندها في اعلاء امن نظامها السياسي العائلي على أمن الدولة او المجتمع.
ب- بناء تحالفاتها الدولية والاقليمية على اساس توظيف التحالف لخدمة امن النظام على حساب امن المجتمع والدولة.
ذلك يعني ان السعودية طبقا للاتجاه الاعظم تسير نحو اقامة العلاقة الكاملة مع اسرائيل بغض النظر عن تحقيق مطالبها وشروطها، ولكنها تسعى للتمويه نظرا لأنها تدرك وطبقا لاستطلاعات الرأي العام السعودي التي قامت بها هيئات امريكية متخصصة أن 96% من السعوديين لا يؤيدون اتفاقات ابراهام او التطبيع مع اسرائيل، لذا فهي تحاول تمويه الاعتراف القادم بإسرائيل عبر خطوات مكوكية وصلت الآن لنهايتها,والمفاجأة هي ان السعودية ستقبل مفهوم الدولة بالتعريف الاسرائيلي ( حكم ذاتي بنكهة الدولة وبدون القدس وبدون الاغوار وبدون عودة اللاجئين ومنزوعة السلاح) ..ولم يبق على هذه الخطوة سوى حضور المأذون غير الشرعي...وهو ما قد يزرع بذرة عدم استقرار كامن.