اللامبالاة لدى عوام الناس وعدم اهتمامهم بالقضايا الكبيرة وقدرة الاشياء غير المهمة على لفت انتباههم اكثر ، هي الصفة الملازمة لكل المجتمعات في كل حقب التاريخ …
العمل في الشأن العام والاهتمام بالقضايا النبيلة والسامية مثل قضية الحرية والحق والخير والجمال هو باستمرار شغل الأقلية / النخبة / الخاصة ، وبفضل جهدها المنظم والمخطط له والجاذب " تجبر " التاريخ على الاستجابة لها وتدفع " الشعوب " على الانخراط في خياراتها ..
في الثورات او في التحولات التاريخية الكبرى لا تشارك " العامة " على بكرة أبيها ...بل تذعن الشعوب لحتميات التاريخ الذي تصنعه " الطليعة " من احزاب وجمعيات وتيارات ومدارس فكرية وزعماء وشخصيات فذة …
القصائد الجميلة والفنون والآداب تنتجها وتتداولها دائما اقلية في المجتمع وحين تنجح " قوى التقدم " في الاستيلاء على الريادة في مراكز النفوذ والقوة المعنوية والمادية وصنع الانسان والعقول والاذواق تربي ابناء "العامة " بالمدرسة والاعلام والجامع و الجامعة والمهرجانات …
الحديث عن " الشعوب "التي " تريد وحدها " وتفعل ما تريد وتعرف ما تريد والمبالغة في مدحها وانتظار ان تصبح كلها مثل نخبها هذا حديث غير دقيق ولا يعرف التاريخ بل هو مجرد رغبات " شعبوية " مقلوبة تريد بعض النخب التنكر تحت قناعها للظهور بلبوس " الشعبية " …
دائما في فترات " الجزر " وتراجع قدرة " الطليعة" على التنظم والتأثير تكثر الشكوى من " جهل الشعوب " ويتمنى الشاعر ابو القاسم الشابي ان يكون حطابا ليهوي على الجذوع بفأسه ويلعن الشعب الذي لا يعي مصلحته ..ويكتب ابو حيان التوحيدي احباطه وينقم على عامة لا تفهم وينعى التفاهة المعممة بل ربما ينظر محمود درويش " الى المسدس ملقى على السرير فأشتهيه " ( من قصيدة مديح الظل العالي حين كانت بيروت محاصرة والمقاومة متروكة لقدرها ومحمود في شقته تحت الحصار يشتهي الانتحار كما فعل خليل حاوي ....اه يا وحدنا ...) وقد يرثي المفكر نفسه لأن الراقصة اشهر منه وربما يتألم حتى المقاتل من عزلته بين الناس وهو يخوض حربه وحيدا في جبهته ....
هذه مشاعر تتكرر في التاريخ دوما ....لكن الخطأ دوما في النخبة والطليعة ....حين يتنظم السياسي ويحسن الطليعي استيعاب وسائل الفعل في التاريخ يكون النهوض والتقدم والشعوب تتبع وحين لا نحسن وسائل الفعل يكون الركود والتخلف …
الاحساس بالإحباط عادي وهو اليوم اكثر من اي وقت مضى ...ثورات ترتد على عقبيها ومقاومة لا ينتفض اهلها لنصرتها وتفاهة تملك كل التلفزات والراديوهات والمسارح والملاعب وتغزو كل فضاءات التواصل الاجتماعي و اساتذة ومفكرون وفنانون يتحولون الى كائنات " عامية " وظيفية وجهلة يصبحون ايقونات اعلام ...لكن يجب ان نعلم ان ذلك سببه غياب " الطليعة "او ضعفها او عدم ادراكها لقوانين التأثير في التاريخ وحين تنجز بعقل بارد نقدها الذاتي وتعد ادوات الفعل ستتهاوى التفاهة ويعود التاريخ الى مساره …
المقاومة وبيئتها لم تضيع وقتها في البكاء والتحسر على طغيان التفاهة او قوة العدو في نشر التفاهة والاستبداد واجهاض القيم السامية ....بل بنت بصمت وصبر انسانها على مضامين قرانية تفهم التاريخ وفعله....فأصبحت قوة تحرك التاريخ.