منذ 19 نوفمبر 2023 بدأت قوات انصار الله اليمنية مشاركة فعلية في الاصطفاف مع معركة طوفان الاقصى الى جانب المقاومة الفلسطينية في غزة، والقيمة الاستراتيجية في المشاركة اليمنية في أنها جسدت وعيا عميقا لإدارة الصراع، فقد بنى محور "الشجب والادانة" العربي رؤيته على اساس ان النزق اللفظي يغير الواقع السياسي، ويتعزز ذلك بالمشاركة في مؤتمر هنا او مؤتمر هناك لإلقاء الخطب وملء شاشات التلفزيون واشباع أوهام لعب " الدور" في إدارة العلاقات الاقليمية والدولية.
فإذا كانت الحكمة "يمانية"، فقد تجسد ذلك في إدراك انصار الله ان العلاقات الدولية لا تدار بالتودد لأمريكا أو بالنزق المفتعل بل بإجراءات تدمي الخصم وتربك خطواته وتخطيطه، ومن هنا وظف انصار الله المكانة الجيواستراتيجية للبحر الاحمر للضغط على اسرائيل من خلالها إيذائها المباشر ،ومن خلال إيذاء غير مباشر عبر ارباك مصالح حلفائها في العدوان على غزة، ويكفي ان نشير الى المعطيات التالية:
1- عند النظر في مكانة البحر الاحمر كمعبر للتجارة الدولية يتبين انه يحتل المرتبة الثانية بعد معبر القنال الانجليزي ،ويعلو في اهميته على قناة بنما والمضائق الدانماركية ومضيق ملقا، فمنه يمر 15% من التجارة البحرية العالمية ،ويكفي الاشارة الى ان قيمة حمولة السفن التي غيرت مسارها بسبب ضربات انصار الله هو 200 مليار دولار ، وهو ما يعني ان انصار الله لمسوا عصبا مهما للاقتصاد العالمي.
2- ان تحويل السفن من البحر الاحمر الى الطواف حول القارة الافريقية عبر رأس الرجاء الصالح وصولا لمضيق جبل طارق يعني تحميل شركات النقل نفقات السفر لأكثر من (3300) ميل بحري (اي ما يعادل 6 آلاف كيلومتر) ،وزيادة في الطول الزمني للرحلة بحوالي عشرة ايام (من 26 يوما الى 36 يوما)، وادرك انصار الله ان عنق الزجاجة في باب المندب(17 ميل بحري)،وهنا يمكن خنق الملاحة من آسيا الى اسرائيل والى اوروبا، بخاصة ان 85% من التجارة البحرية الآسيوية مع اوروبا تمر عبر البحر الاحمر.
3- استثمر انصار الله دور البحر الاحمر في مجال الطاقة حيث يعبره 10% من بترول العالم و 8% من غازه ، وفي ظل تداعيات الازمة الاوكرانية اصبح الامر اكثر تعقيدا للدول الاوروبية،مما يجعلها تبحث عن مخرج.
4- استغل انصار الله الحاجة الامريكية للبحر الاحمر، إذ أن 20% من تجارة الساحل الغربي الامريكي تعبر من البحر الاحمر.
5- التأثير المباشر على اسرائيل: يتمثل التأثير على اسرائيل في الآتي:
أ- توقف 85% من نشاطات ميناء ايلات ، ويكفي الاشارة الى انه في مجال استيراد السيارات تراجع الاستيراد بحوالي 65% خلال الفترة من اكتوبر الى يناير.،كما ان تجارة الترانزيت الاسرائيلية عبر ايلات واسدود تضررت بشكل واضح، لذلك تراجعت الصادرات بنسبة 1% في الشهر الاول والورادات 5%.
ب- ان اجمالي نفقات النقل البحري الاسرائيلي تزايدت مما رفع الخسائر لتصل الى 4 مليار دولار شهريا.
ت- التأثير على سلاسل التوريد والاستيراد الاسرائيلية وبخاصة نتيجة ما اصاب المتاجر الالكترونية الاسرائيلية وبخاصة بعد تردد الانباء عن ما اصاب الكابلات البحرية.
ث- التراجع الكبير في قطاع السياحة الاسرائيلي، وبلغ التراجع طبقا لمكتب الاحصاء الاسرائيلي حوالي 76% مقارنة بالعام الماضي، وعند المقارنة يتبين ان معدل السواح الشهري كان يصل الى 300 الف سائح، لكن طوفان الاقصى وعمليات محور المقاومة ومن اهمها عمليات انصار الله أدى لتراجع العدد الى معدل يصل حوالي 53 الف سائح (اي تراجع شهري بحوالي ربع مليون سائح).
ج- رفع تكاليف النقل بنسبة وصلت في بعض الشركات الى 100%( مثل شركات سي.ام . ايه و سي.جي.ام الفرنسية).
ح- بعض الشركات بدأت ترفض حمل ونقل البضائع الاسرائيلية خوفا من هجمات انصار الله.(مثل شركة Ever Green التايوانية).
خ- ان اكبر 15 شركة نقل بحري غيرت مسارها من البحر الاحمر ومن ضمنها شركة تزيم الاسرائيلية.
د- زيادة نفقات شركات النقل الاسرائيلية بسبب زيادة نفاقات النقل وارتفاع كبير في نسبة التأمين على السفن الى حد بلوغها 300% ، وهو ما يؤدي الى ارتفاع اسعار البضائع لتعويض خسائر التأمين والنقل.
ذ- ان عمليات انصار الله زادت من نزعة عسكرة المنطقة بكل ما يتضمنه ذلك من اضطراب بخاصة لمنطقة القرن الافريقي التي فيها 19 قاعدة عسكرية ل 16 دولة ذات مستوى اقليمي او دولي، وهو ما يؤثر على الاستثمار الاجنبي ،فالاستثمار يريد بيئة مستقرة،وهو امر افتقدته اسرائيل حاليا.
قد تتسع الحرب:
معلوم أن اقفال مضائق تيران عام 1956 و عام 1967 كانت سببا في اندلاع الحرب في العامين ،وهو ما يعني ان استمرار الاغلاق للبحر الاحمر قد يجعل اسرائيل تفكر في ضرب اليمن وبالتالي اتساع المواجهة، وفي ظل الدعم الايراني والتطور الواضح في الامكانيات اليمنية العسكرية ،فان القدرة على الضغط على اسرائيل لا يجوز استبعاده ، وقد يخبئ انصار الله مفاجآت لم تخطر على بال،وهو ما اشر له عبد الملك الحوثي في خطابه الاخير قبل ايام.
من جانب آخر، فان التحول من البحر الاحمر الى الدوران نحو الاطلسي عبر راس الرجاء الصالح، سيفرز ظاهرة أخرى ستزيد الامور تعقيدا ،وما نقصده هو تزايد عمليات القرصنة البحرية في المنطقة الممتدة من سواحل انغولا الى سواحل الجنوب النيجيري (الخاصرة الغربية للقارة الافريقية)، فهذه المنطقة الآن هي الاعلى في معدل القرصنة البحرية عالميا، ومع تزايد عدد السفن المارة في هذه المنطقة بسبب التحول عن البحر الاحمر ستزداد عمليات القرصنة، والتي قد تساهم فيها دول وشركات الامن الخاصة، وهو ما قد يشل النقل البحري الاسيوي الاوروبي، وبالتالي الدفع بإسرائيل نحو القبول بوقف اطلاق النار.
من ناحية أخرى، فان اطلاق الصواريخ اليمنية على ايلات مباشرة، هي لمطاردة المستوطنين الاسرائيليين الذين فروا من مستوطنات غلاف غزة، وكأنها رسالة واضحة للتضييق عليهم كما يضيقون على اهل شمال غزة بخاصة.
والملفت للنظر ان محاولة الولايات المتحدة لإنشاء تحالف لضبط انصار الله لم تكلل بالنجاح، بل ان عمليات انصار الله اصبحت اكثر خطورة.
ذلك يعني ان انصار الله تعاملوا مع الموقف لا بنزق الادانة والشجب بل بإدارة الصراع على اساس الفعل لا الثرثرة والحساب الهادئ لا الحساب الاهوج، فالغرب واسرائيل لا يوليا الثرثرة والشجب والادانة اي اهتمام، وهو ما يتضح في علاقاتهم مع خصومهم، فأي تصرف من دولة معادية لهم يواجهونه باجراءات سياسية او اقتصادية او عسكرية...الخ، ثم يبررون تصرفهم، وهنا تعامل انصار الله مع الغرب بنفس منطقه...ولا يفل الحديد الا الحديد،وهنا يتضح درس الحكمة اليمانية.