من الملاحظ أن الجامعات الغربية بدءا من الولايات المتحدة الى أوروبا هي الاكثر وضوحا في التفاعل مع ما يجري في قطاع غزة ، ومن غير الممكن مقارنة الحراك الواسع في الجامعات الغربية وبين الحراك في جامعات العالم الآخرى، فلا الجامعات العربية ولا الاسلامية ولا الروسية او الصينية او الهندية او الافريقية او الامريكية اللاتينية تجاري في حراكها الحراك في الجامعات الغربية..والارجح أن ثقافة الحرية المجتمعية ( لا ثقافة الحرية المؤسسية الرسمية) ، تلعب دورا في هذه المجتمعات، فكيف ستجري مظاهرات مثلا في الجامعات السعودية ،وهي الدولة الاقل عالميا في التظاهر بأشكاله المختلفة ؟ ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن غير الممكن ان تسمح جامعات "المضارب والجند " بحرية التعبير إلا إذا كانت لاحتفالات المديح والثناء.
لقد وصفت فوكس نيوز المظاهرات في عشرات الجامعات الأمريكية المشهورة والمتميزة بشكل خاص والجامعات الغربية بشكل عام بأنها المظاهرات الأكبر خلال هذا القرن...فما هي محركات ذلك؟
أولا: من المتعذر النظر في حراك الجامعات الامريكية بعيدا عن حركة المجتمع ومظاهراته، إذ بلغ عدد المظاهرات المساندة لفلسطين في الولايات المتحدة حتى الآن ما مجموعه (2200) مظاهرة(الفان ومئتا مظاهرة)، اي <بمعدل حوالي 10 مظاهرات يوميا، وحيث ان الجامعات جزء من نسيج المجتمع ،فان انتقال الحمى للجسد الاكاديمي امر طبيعي.، ولعل هيئات المجتمع المدني بخاصة الاكاديمية منها كانت وراء تهيئة البيئة لانتقال هذه الحمى، فالدعوات لمقاطعة الجامعات الاسرائيلية انتشرت بقدر ما في اوساط الجامعات الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص(وهو ما تدل عليه تقارير BDS المنتظمة)، وقد بدأت هذه الحملات منذ أكثر من عقد كامل ، ولعل رابطة الدراسات الآسيوية الامريكية Association for Asian American Studies كانت الهيئة الابرز في هذا الجانب منذ اعلانها المقاطعة للجامعات الاسرائيلية عام 2013، ثم تبعها في نفس المرحلة تقريبا رابطة الدراسات الامريكية ( American Studies Association ) وفي عام 2016 صوت اعضاء الرابطة الانثروبولوجية الامريكية( American (Anthropological Association لصالح تاييد فرض مقاطعة اكاديمية لاسرائيل بنسبة 71%.
ثانيا: لم يعط الاعلام الاهتمام المطلوب لبدايات هذه المظاهرات التي ترافقت تقريبا مع طوفان الاقصى مباشرة، فبعد تسعة ايام من طوفان الاقصى اشتعل النقاش في الجامعات الامريكية ، ونشرت البي بي سي البريطانية تقريرا عنوانه " الاضطراب في الجامعات الامريكية " في 16 اكتوبر، اي ان ما يجري حاليا هو تنامي لظاهرة بدأت منذ 7 شهور.
ثالثا: الخطاب السياسي الاسرائيلي المفارق للحد الأدنى من مقومات الخطاب السياسي الناجح ، فقد شكلت تصريحات المسئولين الاسرائيليين صدمة تردد صداها في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وفي اغلب هيئات حقوق الانسان بمن فيها الهيئات الامريكية، فتصريحات نيتنياهو وبن غفير وسموتريتش وغالانت ..الخ عن الدعوة الى ضرب غزة بالقنابل النووية، واعتبار اهل غزة بانهم حيوانات بشرية، والتأكيد على منع الماء والكهرباء والطعام والدواء عن السكان المدنيين ، شكلت لغة تجاوزت كل اشكال العنصرية والتحريض المُعتل، وهو الامر الذي أجبر الرئيس بايدن على ادانته بل وطالب باخراج المتطرفين من الحكومة الاسرائيلية.
رابعا: انهيار كامل للاستبداد الاعلامي، فقد فقدت وسائل الاعلام التقليدية التي تجذر النفوذ الصهيوني في بنيتها مكانتها بسبب ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، واصبح انتقال الصورة الحقيقية يتم عبر الافراد العاديين والإعلاميين ، ولم يعد هناك امكانية للتلاعب بالعقول كما اعتاد الاعلام الصهيوني، بل ان عبارة "معاداة السامية "التي يتشبث بها نيتنياهو لوصف الحراك في الجامعات الامريكية لم تعد تجد القدر السابق من الآذان الصاغية، ويكفي التنبه لما قال المرشح الرئاسي الديمقراطي السابق سوندز وسخريته من " حجة معاداة السامية" وهو نفس مضمون ما قاله ميرشايمر ابرز الاكاديميين الامريكيين في حقل العلوم السياسة’..وغيرهم الكثير.
خامسا: التمادي في الانحياز الامريكي بالمساعدات المفرطة لاسرائيل واوكرانيا وتايوان، تدرك الجامعات (اساتذة وطلابا) ان معدل الفروق الطبقية (Gini Index) تتصاعد في الولايات المتحدة منذ 2020، وفي الوقت الذي تتزايد هذه الظاهرة لتصل بالولايات المتحدة لتكون هي الاسوأ بين كل الدول الصناعية الكبرى ،يجري الاعلان عن مساعدات سخية لاسرائيل واوكرانيا وتايوان، ووصلت الدفعة الاخيرة قبل اسبوع الى حوالي 95 مليار دولار، وهو ما جعل المجتمع الامريكي يربط بين الظاهرتين، فاستشاط غضبا، وهو ما تؤكده استطلاعات الراي التي اشارت لى ان 36% يؤيد زيادة الدعم بينما يعارضه 34%(اي انشطار واضح في الموقف المجتمعي الامريكي).
سادسا: شكلت تقارير الهيئات الدولية المحايدة عن العنف في قطاع غزة ضد الاطفال والنساء والعزل من المدنيين صورة مستفزة للضمير الانساني،ولما كان المجتمع الجامعي هو الاكثر اطلاعا على مثل هذه التقارير، فقد شكل ذلك محركا واضحا، ، فتقرير اوكسفام (OXFAM) على سبيل المثال لا الحصر، يشير الى ان معدل القتل اليومي في غزة هو اعلى معدل في الحروب منذ الحرب العالمية الثانية، كما أن تدمير الجامعات ومقتل الآلاف من الطلاب والاساتذة والموظفين في هذه الجامعات والمدارس رسم الصورة البشعة للسلوك الاسرائيلي، وازدادت الصورة بشاعة بعد تداول الاخبار والصور عن تدميرالمستشفيات ومراكز الرعاية وتجمعات استلام المساعدات التي يرسلها المجتمع الدولي بما فيها الامريكية ، وكل ذلك شكل صورة اجرامية غير مألوفة من ناحية لكن الاعلام الاسرائيلي يحاول تحويلها الى "دفاع عن النفس" دون جدوى من ناحية اخرى. وإن وجود هيئات المجتمع المدني (الاتحادات الطلابية والنقابية والاحزاب ...الخ) عزز الثقة بكل التقارير، ففي الاسبوع الاول من فبراير 2024 دعت الرابطة الامريكية لأساتذة الجامعات (American Association of University Professors ) الى وقف القتال ،فرد نيتنياهو على النداء بانه يستعد لاجتياح رفح وتهجير سكانها بعد تهجير سكان الشمال في القطاع.
سابعا:ان تخفيض سن الناخب الامريكي في عام 1972 من 21 الى 18 عاما، اعطى فئة طلاب الجامعات وزنا اكبر لأنه اضاف لكتلتهم الانتخابية قوة تصل الى ما يعادل زيادة تصل الى 3.5% من الناخبين، وهو ما جعل رغبة الاحزاب في استمالتهم تتزايد ، لكن المعروف في الدراسات الامريكية ان الشريحة الاكثر مناهضة لإسرائيل هي شريحة الشباب الذي يشكل طلاب الجامعات الجسد الرئيسي لها. ، ولعل مساندة هذه الشريحة لحركة (BDS ) ونقل دعواتها الى داخل الجامعات هو ما دفع 30 ولاية امريكية للنص في قوانينها على معاقبة الشركات التي تستجيب لدعوات BDS لمقاطعة اسرائيل.بينما بقية الولايات لم تستجب لهذه الدعوة.
ثامنا: السوابق التاريخية الطلابية الامريكية مع الحروب غير الانسانية ، إذ يتماثل ما يجري حاليا في ساحات الجامعات الامريكية مع ما وقع ضد الحرب الفيتنامية في الستينات ، وما وقع ضد التمييز العنصري في جنوب افريقيا في ثمانينات القرن الماضي وغيرها ، ومن الملاحظ أن جامعة كولومبيا من الجامعات الرائدة في هذه الحركات، وهي الآن احدى مراكز الحراك المتقدمة تماما.
تاسعا: إذا استثنينا شريحة الواسب(WASP )( اي البيض الانجلوساكسون البروتستنت) فان المجتمع الامريكي هو مجتمع الأقليات على غرار المجتمعات الاستيطانية، فهو مجتمع متنوع بشكل كبير( حسب اللون ،القومية ،الدين ) وهناك نسبة ذات وزن كمي هام من هذه الاقليات التي تعود لدول العالم الثالث ، وهي اقليات اكثر ميلا للتعاطف مع قضايا مجتمعات العالم الثالث، وينتشر هؤلاء في الجامعات ، فإذا علمنا ان مجموع الآىسيويين والافارقة والامريكيين اللاتينيين يشكلون حوالي 110 مليون نسمة ، فان هؤلاء يحملون هموم العالم الثالث أكثر من غيرهم لا سيما انهم يشعرون بمعنى العنصرية والتمييز على اسس اجتماعية، وهو ما يجعلهم اكثر ميلا – نسبيا- من غيرهم للتعاطف مع المظلومين على غرار غزة، وهو ما يفسر ظهورهم بشكل ملفت في مظاهرات الجامعات.
إن المشكلة لدى القيادة الاسرائيلية الحالية أنها ما تزال تنظر لتعقيدات الحياة الدولية عبر "الاسطورة التاريخية، وعبر وهم التميز القومي الممنوح من القوى الميتافيزيقية، وعبر الشعور بالتفوق استنادا لنظرة دونية للآخرين، ثم ترويج الاكاذيب التي كان يصعب التحقق منها بينما اصبحت الآن تحت الشمس"..
إن رد الفعل الامريكي الرسمي على هذه المظاهرات قد يؤجج الامر كما حدث في الستينات من القرن الماضي، وتركها لتتفاعل امر لا تراه اسرائيل أمرا ايجابيا، ولعل تعليقات نيتنياهو حول هذه المظاهرات مؤشر على ضيق الصدر الشديد جدا ..
ان دماء سكان غزة –ولو بالألم الكبير- لم تذهب هدرا، انها تنجز تغييرا هادئا في صورة آخر دول الاستعمار الاستيطاني ..ولكن لا بد من الوعي لكيفية تطوير ذلك وبوعي كبير..ربما.