لم يكن سهلا أن نستنشق عبير الحرية في فجر 14 من جانفي، كانت تونس تصخب وتغلي بجراحات أبنائها وعذاباتهم، بين السجون والمنافي، وبين الكبت والقهر. كانت الأشواق إلى الانعتاق تكتظ في صمت البركان، حتى أعلنها الأحرار مدوّية في سماء العالمين ، وضمخها الشهداء بدمائهم الزكية وهتافاتهم المقدسة.
لم نكن نحلم بانقشاع الغيوم المتلبدة الجاثمة على سمائنا، وبانجلاء الغمّة الضاغطة على الصدور والكاتمة للأنفاس، إلا بعد أن أزهرت الجراح وعودا وتنورت الدموع نشيدا وتولدت المعاناة بلادا. كان القدر حاضرا لدعم المقهورين والمقموعين والمشردين، وكانت تونس قد ضاقت وضجّت كفرا بالصمت الرجيم فأذّنت الانتفاضة وزغردت الشرايين وأرعدت العزائم فاستجاب القدر.
كان لابدّ من الارتباك والفوضى لأننا لم ندرك في البداية حقيقة ما أنجزنا، وكان لابد من الاختلاف لأننا كنا بلا طليعة ولا قيادة، ولكننا استطعنا جميعا أن نسعد ونستبشر بما حققنا من نصر مبارك على الدكتاتورية التي حاولت النهوض والعودة بأشكال شتى من بث الرعب والفوضى، بل مازالت إلى اليوم تحاول بث الشك بأساليب شتى كالترهيب والتهريب والفساد والاحتكار وافتعال المشاكل ... ولكن هيهات .
هيهات أن تتراجع شمس الحرية، وقد أشرقت، عن مسيرتها في سماء تونس، وهيهات أن ترتدّ الجماهير عما قطعته من أشواط الانعتاق، وعما اكتسبته من وجدان نابض بالحياة الكريمة، رغم التعثرات.
نسائل أنفسنا اليوم، لماذا نوشك أن نفرّط في كل ما تحقّق من منجزات معنويّة كبرى، بسبب خلافات بغيضة رأس مالها الحسابات السياسوية الضيقة ؟ لماذا نوشك أن نهدر دماء الشهداء ومعاناة المناضلين الشرفاء طيلة عقود، بسبب وجهات نظر تغذيها حمية الإيديولوجيا ؟ لماذا نسمح لثورتنا التي مازالت تتقدم ببطء شديد، أن تظل رهينة التلاعب والتجاذب والمكابرة ؟
لقد آن الأوان كي تعرف تونس أبناءها الحقيقيين الذين رضعوا حليب الانتماء لمفردات أحلامها وآمالها، والذين دفعوا أثمانا باهضة كي يسعدوا بلحظات الحرية والكرامة، كما آن لها أن تعرف أولئك الذين لم يشتاقوا يوما للانعتاق ولم تلهج به نفوسهم ومشاعرهم، أولئك الذين يظلون دائما طفيليات في مسيرات الشعوب وغبارا ووحلا لا يعيق العازمين على الوصول إلى جنة المأوى، حيث تكتمل خضرة الأرض ويخصب النخل والزيتون، ويطمئن الصادقون براياتهم المختلفة، على نهجهم ووطنهم، فيؤلفون بأصواتهم المتنوعة نشيدا واحدا وسقفا جامعا. لقد طال أمد الجدل والخلاف ولم يعد ممكنا أن نستمر في هدر المزيد من الوقت من عمر وطن طالت غربته عنا، وغربتنا عنه.
المجد للشهداء وللمناضلين الأحرار، وللتونسيين القادرين على زراعة الأمل وتعهّده، وتجاوز العوائق، وبناء المستقبل الباشر للجميع.