البحّارة الذين يطرحون السمك القليل الذي اصطادوه طوال الليل على الرصيف في مدينة حمام الأنف هذا الصباح لم يسمعوا بالكاريكاتور الذي صار صيته عالميا بعد حادثة ذبح الأستاذ، راحي التوابل قال لي إنّ الرسم أتفه من أن تكون له صلة بالرسول فالرسول كما يحضر في مخيلته نور خالص ولن يستنقص الرسم من قيمته، الشاب الذي اقترب مني وأنا أقف في الصف أنتظر دوري همس لي أنّه أصلح لي مرّة شيئا في البيت وأنّ زوجته قد ولدت البارحة. كان يتكلّم بخجل شديد. خجل مهين. خجل قاهر. في الوقت الذي التفتت إليّ المرأة التي أمامي ونبّهتني أنّه قد يريد سرقتي.
ولكنّي كنت أفكّر، أنا الواقعة تحت سطوة الخبر والدعاية، في استتباعات الحادثة، وفي الرسول الأكرم الذي أكرم البشر بأن حرّرهم من الفقر والمذلّة أوّلا. ثورته كانت ثورة الفقراء على عجرفة سادة قريش وعلى استغلال طبقي واستعباد للبشر، وأنّ لثورته مضمون اجتماعي عميق قد ضاع في خضمّ متخيّل ديني نتج طوال قرون من التخلّف. الدفاع عن الرسول، إن كان يحتاج اليوم دفاعنا نحن المكبّلين بأصفاد العبوديّة الجديدة، إنّما يكون باستعادة تلك اللحظة التاريخية المضيئة، لحظة تحرير الإنسان من القهر والفقر والجهل والأنانية.
فهل نحن ونحن نغرق في صراعات الهويات القاتلة ندرك خلفياتها السياسية والاقتصادية واستراتيجياتها التي تحولنا إلى حطب لمحارق الصراع على ثروات العالم محارق ستفضي إلى مزيد سحق الإنسان بآلة الهيمنة التي لا تبقي ولا تذر تحت مظلّة الهويات خاصّة في هذا الزمن الكوروني البغيض، أم أنّ الأمر مخلّفات حميّة عربيّة سرعان ما تهدأ لنعود إلى يومنا المعتاد؟
يبدو الإنسان العادي الذي يكدح للحصول على أجر يومه بعيدا عن هذه المعارك، ويبدو أنّها ترف فكريّ لا يطاله، قد لا تهمّ ذلك الشاب خالي الجيب وخالي الذهن من مشاكل المترفين.
وربّما علينا أن تكون لنا شجاعة السؤال: هل إسلامنا اليوم كما نفهمه وكما نمارسه وكما ندّعيه هو نفسه الإسلام المحرّر الذي جاء به "خيميائي التاريخ والحضارة" االرسول الأكرم الذي استطاع أن يصنع معجزة تحويل غبار من البشر إلى دولة عظمى، وأن يصنع من الرثاثة أمّة ومن العربي الرثيث غازيا للعالم. محمد المنتصر تاريخيا لا يمكن أن يهزمه كاريكاتور بائس لا يحرّك فيّ ساكنا صنعه بائس يرى في العبث التافه بالمقدّسات أقصى درجات حريّة التعبير لديه لذلك لا يكفّ عن رسم الأنبياء أجمعين: موسى وعيسى ومحمد ويواجهه اليهود والمسيحيون بالصمت وهو ما يدعونا إلى الكفّ أوّلا عن فكرة الاستهداف ودور الضحية الذي نتلذّذ به. محمد المنتصر لا يخذله سوى قومه الذين عادوا إلى الرثاثة الفكرية والحضارية منذ زمن طويل. وأعتقد أنّ لدينا هنا ما يكفي من معارك التخلّف ما يجعلنا في غنى عن إضافة معارك الهوية.
البحّارة والباعة والعاطلون ومن لا يجدون الرزق ولا الصحّة ولا التعليم، المقهورون الذين يخجلون من مدّ أيديهم فيطلبون الستر، الموجوعون الذين لا يجدون الدّواء، المحرومون من أسباب العيش، التائهون الذين يلقون بأنفسهم في البحر، المضيّعة عقولهم، هؤلاء يذكّروننا دوما بأنّ الأنبياء هم قلوب الإنسانية الكبرى التي تحمل أوجاع البشر وتشيع الرحمة الإلهية وبأنّ الدين إنّما هو تحرير للإنسان أوّلا وإن لم يكن كذلك فهو مجرّد طقوس خاوية، أو هو أداة دوغمائية لصنع مشاريع قتلة، أو هو قناع لإخفاء السرقة والجريمة ووسيله الطبقة المهيمنة لسلب الإنسان كيانه.
هؤلاء يعرفون أنّ محمّدا محرّر للإنسان وأنّه قاد ثورة من أجل البشر وضدّ الظلم وغطرسة الإنسان وأنانيته، وأنّه يجسّد الحِلم والسّماحة في أبهى مظاهرها، هكذا يحضر في المخيال وسيظلّ رغم الصور الكاريكاتورية ورغم مؤسسات كاملة تتعمّد تشويه الإسلام والمسلمين بعضها يديرها عرب (أتابع لسنوات بعض الصفحات التي تهاجم الإسلام ويديرها عرب.. لم يردّ عليها أحد.. فأين غيرتنا على الإسلام؟).
ولذلك نحبّه. محمد سيّد الآنام، ذلك الذي علّمنا أن نحب لأخينا ما نحب لأنفسنا، ولذلك يحبّه أيضا الكثير من الملحدين الذين يعترفون بعظمته. بل لعلّ أجمل النصوص التي أشادت بمحمد هي لملحدين. وقد تشدّنا هذه الأيام بعض التحاليل الموضوعية لمثقفين فرنسيين نقدوا بشدّة سياسات ماكرون البغيضة تجاه الإسلام والمسلمين التي تسعى إلى استمالة يمين ممتلئ بالحقد العنصري، موضوعية هي الوجه الآخر لفرنسا التنويرية فرنسا التعدّد والاختلاف والتنوّع البشري.
ونحن من يسيء إليه، صنّاع الرثاثة الذين تهترئ لدينا كلّ المعاني الجميلة، حين نغفل عن الإنسان هنا، فلا نحب له ما نحب لأنفسنا، فيتحول في غفلة منا إلى قاتل باسمه وباسم الله.