من أرشيف سنوات الجمر : النص الذي كتبته في منزل المرحوم عبدالقادر المهيري

Photo

من الصعب جدا وقد وصلني منذ ساعات خبر وفاة استاذنا الجليل عبد القادر المهيري… من الصعب الان ان استحضر كل ذكرياتي معه . ولكن لازلت اذكر في ما اذكر تلك الجلسة الخاصة التي جمعتني به وظلت عالقة في ذهني . كنت في سنة 2008 بالإضافة الى تدريسي بكلية الاداب بمنوبة صحفيا متعاونا مع جريدة الموقف . في تلك السنة وهي خمسينية الجامعة طلبت مني الجريدة كتابة نص حول الموضوع .كان الاستاذ نجيب الشابي مدير الجريدة والذي كان يشرف شخصيا على اجتماع هيئة تحريرها يوم الجميس في ما اذكر كان أولهم مستاء جدا لان النظام بمنطق الفرز السياسي الذي كان يمارسه كرّم جامعيين لم يقدموا شيئا للجامعة واستثنى أسماء كبيرة وابرزهم هشام جعيط .

قال لي نجيب الشابي يومها اذا لم تخنّى الذاكرة ان نظام بن علي نظام يقتل الذاكرة ويعاقب الذكاء ويغتال او يحاول ذلك جهد العلماء التونسيين الاجلاء. كنت بلا شك أشاطره الرأي واحمل في حماسي ويأسي من التغيير كرها شديدا لنظام بن علي ولكل من تعاونوا معه من الجامعيين ولكل وزراء التعليم العالي الذين جاء لنا بهم وأولهم لزهر بوعوني غير اني كنت افهم المنطق الجلي والواضح في تكريم نكرات واستبعاد عمالقة الفكر الجامعي.

بيد ان مشكلتي وقتها اني لم اكن اعرف الأجيال الأولى للجامعيين التي وقع تكريمها او لم يقع تكريمها . اتصلت وقتها تمهيدا للكتابة بالأستاذ شكري مبخوت وكان وقتها عميد كلية الآداب بمنوبة وحدثته عن مشكلتي. قال لي المبخوت » عليك بشخص واحد هو بلا منازع خزينة الجامعة التونسية ومستودع اسرارها وذاكرتها الحية. « واعطاني رقم هاتف الاستاذ عبدالقادر المهيري .

اتصلت به على الفور وطلبت منه ان نلتقي وشرحته له الموضوع . اتفقنا على اللقاء يوم الغد بمعهد التكوين المستمر بباردو . كان المرحوم يشرب كل يوم قهوته الصباحية مع كبار اساتذة الجامعة هناك . التقيته بالمعهد وطلبت منه ان نجد لنا قاعة بالمكان لنتحدث . فأجابني المرحوم بسؤال لم أتوقعه وكان الرجل يعرف نوع المقالات التي اكتبها في الموقف بل كان أحيانا يرسل لي مع الأستاذ حمادي صمود – متع بالصحة – بعض ملاحظاته حول ما اكتبه. سألني اذن اذا كان هاتفي مراقبا من طرف البوليس السياسي . فأجبته في شيىء من الاستغراب والخجل انني لا ادري وان الامر في الحقيقة لا يهمني كثيرا فانا ببساطة نقابي ولا اشتعل بالسياسة في حزب سياسي ولست معارضا سياسيا لنظام بن علي بهذا المعنى.

كل ما في الامر اني اكتب ما افكر فيه وما تستطيع الجريدة نشره رغم متاعبها الكبيرة والحصار المضروب عليها وعلى الحزب الديمقراطي التقدمي . اتفقنا في اخر الامر ان يكون لقاؤنا في منزله طلبا للسلامة ( يبدو انني كنت رجلا خطيرا وأنا لا اعلم ) وصلت الى منزله بمنطقة العمران على الساعة الواحدة بالضبط كما طلب مني . دامت جلستنا حوالي ست ساعات . كنت انقل على اوراقي ملاحظاته ،البعض منها له علاقة بالجامعة والبعض منها له صلة بحياته السياسية بالإضافة الى منزلته كجامعي.

سمعت منه يومها ما لم اكن اعرفه عنه ولعله قليلا ما كان يذكره إلا في جلساته الخاصة وقد احتفظت بكل ذلك في وثائقي التي قد يأتي وقت نشرها .غيران المهم هو النص الذي كتبت اكثره يومها في منزله والذي نشر في جريدة الموقف في جانفي 2008 . وقد أرسلته اليه بعد نشره. كنت احب ان اذكره في نص المقال وان اشكره على التعاون ولكنه طلب مني ان أعفيه من ذلك. غير انه اكد لي انه يمكن لي ان اعود اليه كلما احتجت الى مساعدة اذا كان ما اكتبه على صلة بالجامعة كما اكد لي ان ما انشره في الجريدة مفيد ودعاني بحرارة الى عدم التوقف عن الكتابة رغم صعوبة الظرف .

لاتزال ذكرى هذا اللقاء عالقة بذهني استحضرها ( لأسباب يصعب شرحها في هذه الورقة الصغيرة ) قبل غيرها رغم اني درست على الرجل في سنة الاستاذية ثم في درس التبريز . وداعا أيها الأستاذ الجليل الذي كنا نخشاه حين كنا صغارا في سنواتنا الأولى بالجامعة لأسباب ليس هذه مناسبة ذكرها ولكنه كان قريبا منا حين كبرنا ووجدنا فيه الأستاذ الحريص على درسه القريب جدا من طلبته في المرحلة الثالثة.

لم نكن في كثير من الأحيان امام أستاذ بل امام اب عزيز علينا صارم معنا ولكنه لا يتردد ان يقدم لنا يد المساعدة حين نحتاج الى خبرته وأحيانا الى مكانته في الجامعة للتغلب على بعض مصاعب حياتنا المهنية.

عبدالقادر المهيري رجل لن تنساه الجامعة بكل ما كنا نحب فيه وما لم نكن نحب . اعيد هنا نشر المقال الذي كتبته في منزله وفاء لروحه ولأرواح كل من ذكرتهم في مقالي هذا واستحضارا لجهد وعطاء من هم لا يزالون على قيد الحياة ولم ينضب عطاؤهم :

خمسينية الجامعة التونسية

هنيئا لمن كرّموا … ولمن لم يكرّموا

إن القارئ لقائمة الأساتذة الذين وقع تكريمهم من قبل السيد وزير التعليم العالي بمناسبة خمسينية الجامعة لا يسعه إلا أن يبتهج لكثرة المكرمين من جيل المؤسسين وغير المؤسسين , أولئك الذين وهبوا أعمارهم لخدمة المشروع الكبير الذي لم يكن يعني في أواخر الخمسينات وطوال الستينات غير عدد قليل من الطلبة تحتضنهم بناية صغيرة ولكنها كانت تضم في جنباتها حلما وضع البناة الأوائل حجر الأساس فيه بجهد الأمل الفياّض واندفاع الطموح الغامر.

غير أن الاحتفاء (ليس قصدنا الطعن في جدارة هذا أوذاك ) قد استند إلى مقاييس لم نستطع تبينها بدقة .

لقد كرم المكرمون حسب ما ورد في المعلقة التي سلمت إليهم » تقديرا للمجهود المميز في مجالات التكوين والبحث والمساهمة في تطوير منظومة التعليم العالي «

ومن الواضح أن هذه العناوين لا تتصل بالتأسيس فقط بل باعتبارات فرعية يمكن أن تعني الجيل الثاني من الجامعيين .وهو أمر يمكن التأكد منه من خلال قراءة القائمة التي احتوت على أسماء هي فعلا من الجيل الثاني .ولكن المشكلة الأكبر هي أن بعض الأسماء من الصعب أن نجد لها مكانا بغض النظر عن المقياس الذي اعتمدناه فلا هم من المؤسسين ولا هم من المسيرين الأوائل او المتأخرين نسبيا ولاهم من الأقلام البارزة في مجال الإبداع العلمي مما يعطي الانطباع عموما بان مجموعة من العناصر المتداخلة قد تفسر الاختيار. ومن غير المستبعد أن تكون هذه الاعتبارات على صلة وثيقة بالعلاقات الشخصية والقرب من مراكز القرار .ومهما يكن من أمر فإننا وفي كل الحالات بدون استثناء لا نعثر على أي اسم يمكن إدراجه في خانة غير المنسجمين سياسيا . معنى ذلك وإذا أخضعنا القائمة إلى منطق المقياس الغائب لا الحاضر قلنا إن المطلوب في التكريم وقبل النظر في اعتبارات أخرى هو غياب أي شكل من أشكال الاختلاف أوعدم الانسجام حتى لا نقول المعارضة .

هذا في ما يخص المكرمين أما إذا نظرنا إليها من جهة غير المكرمين فان ملاحظاتنا السابقة تسعفنا أيما إسعاف لفهم الاستثناء. وقبل تقديم قائمة في هؤلاء « المتروكين » وحتى نكون صريحين مع قرائنا فإننا وجدنا في حالات قليلة والحق يقال صعوبة كبرى في فهم منطق الاستبعاد مثلما هو الأمر في ما يخص الأستاذ الشاذلي العياري المبرز في الاقتصاد منذ الستينات والعميد الأول لكلية الحقوق والوزير السابق .

لم نفهم لهذا الاستثناء من معنى رغم رجوعنا إلى شيوخنا لإنارتنا . فهل يكون السبب هو النسيان ؟ وهل النسيان ممكن بمنطق المؤسسة التي تعيش بذاكرتها الموثقة لا بمنطق الذاكرة البشرية التي آفتها النسيان ؟ ام أن وراء الأمر اعتبارا لا يعلمه إلا الراسخون في العلم . عدا هذا المثال وربما أمثلة قليلة أخرى مثل الأستاذ عمر الشاذلي او محمد ستهم فانه من السهل أن نعثر على السبب الكامن وراء عدم وجود الاسم ضمن القائمة وهو في الحقيقة سبب واحد شامل لكل الحالات تقريبا .فقد كان » المنسيون« غير منسجمين بالقدر الكافي.

فمنهم من انتمى إلى تيار مخالف للاتجاه الرسمي ولم يعلن توبته بعد ذلك. ومنهم من عبر عن رأي أو آراء لم تعجب أو اتخذ مواقف لم ترق لمن يعنيهم الأمر أو جاهر بمعارضة صريحة. وهم في كل الحالات « غير جديرين » بثقة الحاكم . ونذكر على سبيل المثال لا الحصر- إذا أخذنا في الحسبان المقاييس الواردة في الوثيقة الرسمية المذكورة آنفا – السادة الأساتذة محمد الطالبي وهشام جعيط وعمار المحجوبي وتوفيق بكار والطيب البكوش وعبد المجيد الشرفي .

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لم نفهم سبب استثناء الأموات فلا مانع من تكريم الشخص بعد موته . فالذاكرة لا تعترف بالموت(وهبت الجامعة التونسية الدكتوراه الشرفية إلى الأديب محمود المسعدي بعد وفاته ) وهنا سنقتصر على ذكر الأساتذة محمد الشرفي و احمد عبد السلام وزهير السافي ومختار العتيري وقد جاء ذكر الثلاثة الأخيرين منهم على لسان السيد الوزير الأول في خطاب افتتاح ندوة خمسينية الجامعة .

إذن هكذا وكالعادة كان الاحتفاء اقصائيا وتمييزيا إذ أن ذاكرة البعض لا يمكن أن تحتفي بالجامعة في تنوعها وثرائها ,في وحدتها وتناقضها, في ولائها وتمردها بل تحتفي بالجامعة كما تحدد هي مقاييسها وحدودها . فتضع النياشين على صدور البعض وتمحو, أو هي تريد ذلك على الأقل ,من الذاكرة أسماء ستظل عالقة بأذهان الطلبة ,حاضرة في وعي البلاد وفكرها .وهكذا ومرة أخرى تبدو المؤسسة الجامعية التونسية لكثير من الاعتبارات غير مواتية للاحتفاء بالخبرة العلمية وتثمين جهدها . ولعل اخطر هذه الاعتبارات تلك المرتبطة بالفرز السياسي.

إن وجود هذا الفرز لا يعني بالنسبة إلينا غيرا لافتقار إلى فكرة المؤسسية لحساب السلطة التقديرية الإدارية في كل المستويات بل لحساب السلطة السياسية التي تبدو مصالحها بمعزل عن مصالح المجموعة ، وان الافتقار لفكرة المؤسسية له تبعات خطيرة إذ أن التوسيم اوالتكريم أو كل الإجراءات المرتبطة بتثمين عمل الجامعي وإعزاز دوره والإعلاء من شانه كرمز للجهد والتفاني في خدمة مستقبل المجموعة إذا لم يرتبط بالشفافية التي تكرسها النظرة الوطنية المحايدة سياسيا والتي لا تميّز بين زيد وعمرو إلا على أساس الكفاءة يخلق على المدى الطويل بالإضافة إلى التبعات النفسية السيئة على كثير من الأساتذة الذين وقع استثناؤهم سلوكاً غير سوى لدى أجيال الجامعيين في علاقتهم بالإدارة ، أي في علاقتهم بصاحب السلطة ، ويبدو ذلك خاصة في الميل إلى تجنب أي مشكلات و بالتالي عدم السعي إلى أي موقف أو رأي تكون له تبعات سياسية يخشاها الجامعي وهكذا يتحول الباحث الذي اختص في مناقشة القضايا العلمية أوالنظرية العامة أقل قدرة و أقل شجـــاعة و أقل صلابة سواء في مواجهة المعضلات التي تهم مصير التعليم والمؤسسة الجامعية أو في ما يخص المسائل الوطنية التي كثيرا ما يضطر إلى الانسحاب منها خوفا من التورط في « شبهات » تصنفه ضمن دائرة غير «المنسجمين » أو المغضوب عليهم .

إننا نتساءل مرة أخرى هل يمكن لبلد فتي مثل تونس أن يربي أجياله على التنكر للجميل وغمط الحق و يدخل في الاعتبار حتى وهو في غمرة أفراح التأسيس معايير أخرى غير المعايير العلميّة والتربويّة فيصبح التكريم نوعا من الكرم السياسي في غير ميدان السياسة وبغلاف إداري؟

قطعا لا , لان التكريم مثل غيره من الحوافز والتشجيعات والتراتيب المرتبطة بالاحتفاء بالخبرة والاحتفاظ بها والاستفادة منها أكثر ما يمكن من الزمن مرتبط حصرا بوظيفة المحتفى به داخل الجامعة ولا صلة لذلك بوجوده وأفكاره ومواقفه خارج الجامعة لأنه هناك في معترك الحياة لا توجد غير المواطنة حيث يتحول الجامعي إلى تونسي كسائر التونسيين يتمتع بحقوقه كاملة بالطرق والشروط المبينة بالقانون ولا يحد من هذه الحقوق إلا بقانون ومنها حقه في أن يمارس قناعاته و لا يجوز لأي كان أن يخلط بين الصفتين( الجامعي والمواطن) فيعاقب الأول لأجل الحقوق التي مارسها الثاني وهو ما فعلته وتفعله وزارة التعليم العالي التي لا مكان لديها إلا لمن اختار أن يكون جامعيا دون أن يكون مواطنا يعلن مواطنته ويدافع عنها راقت للسلطان أو لم ترق له . فهنيئا لمن وقع توسيمهم ولكن هنيئا أيضا لكل من لن ننساهم رغم جرثومة فقدان الذاكرة التي يريد البعض أن يحقننا بها.


جريدة الموقف جانفي 2008

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات