إهداء: إلى الرفيقة نبيلة القيطوني، التي طلبت مني الكتابة عن هذا الشخص.
لا بد من رفع الالتباس الذي قد يذهب إليه ذهن القارئ فيظن أن التصغير هنا يحيل على الصيغة النحوية للقب بورقيبة من حيث أنه تصغير من الرقبة، فهذا الضرب من "النقد" ليس من شأننا، وإذا تبادر مثل هذا التماثل إلى فكرك، أيها القارئ العزيز، فانبذه للتو. إن ما نقصده بإقصاء التصغير والتكبير هو إرجاع الشخص إلى حجمه الحقيقي بعيدا عن المحاولات الجارية لجعله صفرا مطلقا أو رقما لامتناهيا. ولا يعني ذلك أننا سنتخذ منه موقفا توفيقيا فضلا عن أن يكون تقريظيا، ونصيحتنا لمن لا يريد أن يطلع على مدى وضاعة بورقيبة وهوان شأنه أن ينفق وقته في نشاط آخر غير قراءة هذا المقال. وما ذلك إلا لأن بورقيبة إذا أميطت عنه صيغ التبجيل والتحقير معا سيظهر من تلقاء نفسه حقيرا.
نشأ الحبيب بن علي بورقيبة في أسرة متعددة الأفراد ومتوسطة الحال إذ إن ربها، أبوه، كان جندي مشاة (ترَّاس) ثم ضابط صف في جيش البايات، وكان هذا الجيش يتكون من عساكر حراسة مهمتهم تشريفية لا قتالية. وقد دأب والد بورقيبة على تحذير أبنائه من الارتباط بسلك الوظيفة في بلاط الباي وشبه نفسه بالحمار الحامل للبرذعة وهي هنا الوظيفة العسكرية في بلاط الباي. فكان الخيار الذي تفتح عليه وعي بورقيبة الشاب هو النجاح في الدراسة أو حمل البرذعة.
وإضافة إلى هذا التراث العائلي عايش بورقيبة في أول سنوات شبابه توسع افتكاك الأراضي الفلاحية العامة والخاصة لصالح المعمرين، الأمر الذي جعل ملاك الزياتين في الساحل يدركون أن مصالحهم قد صارت متناقضة بالكامل مع المشروع الاستعماري، ومع الإدارة المحلية بشقيها الفرنسي والتونسي. دخل بورقيبة معترك الحياة بعقلية البورجوازي الصغير الطامح إلى الارتقاء بأية وسيلة، وبتشبع كامل بنزعة الانتماء الجهوي والحرص على تثبيت مكانة ذويه ضمن النسيج المحلي. ومرحلة تكون القناعات لدى بورقيبة هي فترة العشرينيات، ولذلك فلابد من الإلمام بأهم ما يميز تلك الحقبة حتى نتمثل ما تعرض له صاحب الترجمة من مؤثرات.
بالإضافة إلى اشتداد وتيرة مصادرة الأراضي، ظهرت في تونس بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، أولى التنظيمات الاشتراكية والشيوعية، وتجذرت التحركات العمالية والنقابية واتجهت نحو التنظم وحدثت الإضرابات الكبرى الأولى في المناطق المنجمية وفي نواة البروليتاريا التونسية الآخذة بالتدعم عدديا بتأثير نمو الصناعات البديلة عن الاستيراد والتي فرضتها ظروف الحرب. وعلى الصعيد السياسي ظهرت أولى الدعوات إلى الاستقلال بعد أن وجدت الدعاية المنطلقة من الاتحاد السوفياتي موطئ قدم لها في تونس مارة إليها عبر المحوِّل الفرنسي. وبعد فشل المراهنة على استدرار عطف القوى الاستعمارية على المحميات والتوسل بنقاط ويلسون الأربعة عشر، وفشل سياسة إرسال الوفود التي انتهجها جماعة الثعالبي، حدثت عملية الفرز الكبرى بين خط التسوية والمهادنة وخط المقاومة والتجذر، سيما وأن فترة العشرينيات قد شهدت أيضا فشل المقاومة المسلحة التي اتبعها في تونس الدغباجي وبن سديرة وفي ليبيا رمضان السويحلي وعمر المختار، وفي المغرب الأقصى عبد الكريم الخطابي.
في هذه الظروف أتم بورقيبة دراسته في تونس وفرنسا، وما يتجافى مداحو بورقيبة عن ذكره هو أنه كان تلميذا عاديا جدا وقد تعثر في دراسته ورسب أكثر من مرة. وبالجملة فقد أنهى بورقيبة المرحلة الثانوية في معهد كارنو بعد 12 سنة، على حين إن هذا المسار لا يستلزم أكثر من ست سنوات. والذين يلتمسون المبررات لبورقيبة عن هذا التعثر يشيرون إلى أنه قد انقطع عن الدراسة لمدة تقل عن سنتين بسبب إصابته بالسل، ولكن سنتين من الانقطاع لا تبرران التخلف بثلاثة أضعاف هذه المدة، زيادة على أن نظام المدرسة كان يسمح للمرضى بالمشاركة في الامتحانات.
ومن المؤكد أن السياسة الانتقائية التي اعتمدت في عهد بورقيبة كانت ستطيح به خارج المدرسة لو طبقت عليه وهو في مستهل حياته. وبعد حصوله على الباكلوريا سنة 1924 انتقل بورقيبة إلى فرنسا حاملا معه رسالة توصية من أستاذه الفرنسي مونييه، وهي عبارة عن واسطة تقديم لفائدته موجهة إلى السيدة ماتيلدا لوفراس، أرملة جندي مات في الحرب سنة 1916. وعلاقة بورقيبة مع هذه السيدة وتصرفاته تجاهها تفصح عن قدر هائل من الانتهازية والتلون والنفعية المقيتة. لقد تهالك بورقيبة على هذه المرأة التي تكبره بثلاثة عشر عاما، لأن موارده كانت دون طموحاته ولذلك كان يمطر عائلته برسائل الاستغاثة وطلب العون. وعندما ارتبط بماتيلدا، بادر بورقيبة إلى إخلاء الغرفة التي كان يسكنها ليوفر معلوم الكراء ونزل ضيفا دائما على خليلته التي كانت أصلا نزيلة عند أمها.
وارتضى بورقيبة لنفسه أن يعاشر الأرملة في بيت أمها دون أن يتزوج بها، وتبين الوثائق أن عقد الزواج لم يتم إلا بعد ولادة ابنه جان (وهو الاسم الأصلي لمن صار بعد ذلك يدعى الحبيب بورقيبة الابن). ورغم هذه التضحيات التي قدمتها ماتيلدا لبورقيبة إلا إنه سينبذها نبذ النواة عندما يصبح رئيسا ويضحي طموحه هو الاقتران بوسيلة بت عمار ابنة البورجوازية المدينية أصيلة الحاضرة ("البلدية" باللهجة التونسية(.
عندما عاد بورقيبة إلى تونس افتتح مكتبا للمحاماة لم يمارس فيه العمل إلا لماما، وانخرط في صفوف الحزب الحر الدستوري التونسي، معرضا عن التنظيمات الاشتراكية والشيوعية ومفصحا بذلك عن ميل مبكر نحو الانتهازية والتسويات، وهو ميل سيلازمه حتى النهاية وسيستشري داؤه حتى يجعل منه أشد عملاء الإمبريالية وفاء لسادته في مجمل الوطن العربي، على كثرة ما خبر هذا الوطن المنكوب من عملاء من بين أصحاب الفخامة والجلالة والسمو. لقد أفصح بورقيبة مبكرا عن ميل إلى الاستبداد والتآمر وجعل همه الاستيلاء على قيادة الدستوريين ولو بشق صفوفهم والتنكر لقياداتهم التاريخية. ولم يكن المؤتمر الذي نظمه سنة 1934 في قصر هلال سوى اصطفاف عشائري اعتمد فيه على أبناء جهته من أجل الإطاحة بالقادة الأول المتحدرين من الحاضرة.
واستغل بورقيبة في هذا السياق أيضا ظاهرة الصراع المستمر (والذي لا يزال مستمرا حتى الآن) بين الآفاقيين، أي القادمين من الجهات الداخلية، وبين أهل العاصمة. ولم يكن بورقيبة في الواقع من الآفاقيين حقا، لأن ولاءه إنما كان لأهل الساحل دون سواهم، ولسكان مدينة المنستير تحديدا ودونا عن بقية التونسيين. وبعد أن نال موقع القيادة في الحزب الجديد، اندفع بورقيبة إلى تطبيق سياسة مغامرتية وغير محسوبة العواقب غايتها تحسين شروط التفاوض والتمكين لنفسه في الحزب وليس أبدا تحقيق الاستقلال التام عن فرنسا. وقد ظهرت مخاتلته وجبنه في تعمده الاختباء يوم 9 أفريل 1938 بزعم المرض، وذلك حتى لا يتحمل المسؤولية عن الأحداث.
وهذا الموقف الجبان سيتكرر من بورقيبة في مختلف لحظات المواجهة في المستقبل. وعندما نفي بورقيبة مع ثلة من قادة حزبه إلى أقصى الجنوب لم يتحمل وطأة العيش هناك رغم أنه بشهادته كان يعيش في ظروف أحسن مما يعانيه التونسيون حتى الآن، فقد كان باعترافه يأكل اللحم يوميا (ومن من التونسيين يفعل ذلك الآن وبعد قرابة القرن؟). ولكن السيد بورقيبة، ابن المنستير المدلل والرافل في خير ماتيلدا قد اشتكى من أن اللحم كان لحم ماعز على حين إنه، وهو الساحلي القح، لا يرضى عن لحم الضأن بديلا. وقد قارف بورقيبة في منفاه خطأ مضاعفا تنضاف فيه الخيانة إلى الوضاعة. ذلك إنه قد رضي بتوقيع رسالة استرحام إلى السلط الفرنسية ثم أنكر ذلك في روايته الرسمية ونسب الأمر إلى بقية الجماعة.
وهذه الطريقة التي يعتمدها بورقيبة في تحميل الآخرين نتيجة أخطائه ستتكرر في المستقبل وسيكون من ضحاياها بن صالح والمصمودي ومزالي ، وسيتبجح بورقيبة بأنه آكل للرجال Mangeur d’hommes. ومن المواقف التي اتخذها بورقيبة ثم تفصى منها أيضا تزلفه لدول المحور خلال الحرب العالمية الثانية. وقد فعل ذلك عن قصر نظر وبدافع الحرص على تسهيلات الحياة التي بذلها له النازيون والفاشيون. فعندما هزمت فرنسا في صائفة 1940، كان بورقيبة سجينا في فرنسا وقد أرسل إليه هتلر ضابطا يبلغه تحياته الشخصية ويهتم برعايته. وهكذا حل بورقيبة وبطانته ضيوفا على النازيين في أرقى النزل الفرنسية حيث كان مستوى الخدمة ومواد الإعاشة من الدرجة الأولى. وقد تحدث بورقيبة في خطبه التمجيدية لذاته عن هذه الفترة وكشف مرة أخرى عن تفاهته وتهالكه على الملذات وسطحية تحليله السياسي.
فهو لم يستطع أبدا أن يستوعب مخاطر النازية وهمجيتها وتصور أن الألمان يدللونه حبا منهم للتونسيين والحال أنهم كانوا قد وعدوا حليفهم موسوليني بتمكينه من احتلال تونس بعد الحرب. وقد وقع بورقيبة في فخ المخابرات الألمانية والإيطالية ورضي بتوجيه خطاب إلى التونسيين حسب المضمون الذي حدده له الألمان وتمت إذاعة هذا الخطاب من "راديو باري" وهي محطة دعائية للمحور كانت توجه بثها باللغة العربية من إذاعة باري في إيطاليا، وكانت فائقة الشهرة خلال الحرب. والمدافعون عن بورقيبة يزعمون أنه قد تفطن إلى أن المحور سيخسر الحرب ولذلك فإنه قد اكتفى بعبارات عامة ولم يوجه نداء صريحا لمساندة المحور خلال خطاب باري.
والمقدسون لبورقيبة يرون في عدم رهانه على انتصار المحور دليلا على تبصره السياسي. والواقع هو أن بورقيبة قد أدرك فعلا أن المحور سيخسر الحرب، ولم يكن التوصل إلى هذه النتيجة ليدل على درجة استثنائية من الذكاء، ناهيك عن أن النازيين أنفسهم وفي طليعتهم النائب الأول لهتلر الذي فر إلى انجلترا، كانوا قد أدركوا بأن الحرب مخسورة منذ أن أصبحت تخاض على جبهتين ودخل فيها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة معا. إن ما يحكم بورقيبة هو سعيه الدائم إلى التسلل عبر كل المنافذ ولو بالانبطاح تحت الأرجل لأن المهم عنده هو أن يظل في الصورة، وأن يكون زعيما ومفاوضا تعترف به فرنسا وتسبغ عليه نعمها. وقد حانت الفرصة لبورقيبة أخيرا كي يثبت لفرنسا مدى جدارته ووفائه. فالدولة الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية قد خرجت مهيضة الجناح ومخربة من الحرب وأصبح هدفها في شمال إفريقيا هو الحفاظ على الجزائر وصارت بذلك مستعدة، لتحقيق هذا الهدف، للتضحية بتونس والمغرب.
وما يزعمه البورقيبيون من أن زعيمهم قد أخرج الاستعمار ليس سوى ادعاء كاذب تسفهه وقائع تلك الفترة. لقد أصيبت فرنسا بأكبر هزائمها بعد انكسارها عام 1940، في معركة ديان بيان-فو في فيتنام. والمؤرخون الفرنسيون المنصفون يعترفون بأن فرنسا ما كانت لتنسحب من تونس والمغرب لولا تبعات هزيمتها في فيتنام التي تزامنت مع اندلاع الثورة الجزائرية في نوفمبر 1954. إن التتابع التاريخي واضح هنا وهو ليس مجرد توال زمني بل ترتيب للنتائج على الأسباب: تونس مدينة بحصولها على الاستقلال الشكلي للحزب الشيوعي الفيتنامي. وانتصار الفيتناميين نفسه جاء بدعم سوفياتي وفي إطار حركة تحرير المستعمرات التي ما كان لها أن ترى النور لولا انتصار الجيش الأحمر على النازيين في الحرب العالمية الثانية.
أما بورقيبة فقد اهتم بعد التوقيع على اتفاقية الاستقلال الداخلي بما كان دائما همه الأوحد أي فرض زعامته على الجميع. وفي سبيل ذلك نكل بمن كانوا حتى أمس قريب من محازبيه فألقى في غياهب السجون بكل الموالين لبن يوسف وعذبهم حتى الموت، وكان للرئيس الحالي لتونس الباجي قايد السبسي "شرف" المشاركة في هذه المجزرة بصفته مديرا للأمن ثم وزيرا للداخلية. ولكن بورقيبة، في غمار الصراع بين الدستوريين وما جلبه من تمزق تنظيمي، قد وجد نفسه عاجزا عن تنظيم مؤتمر يصفي فيه اليوسفية سياسيا. وفي سبيل التوصل إلى حماية هذا المؤتمر لجأ بورقيبة إلى مناورة مزدوجة حيث نظم المؤتمر في صفاقس بدلا من العاصمة ولجأ إلى حماية الاتحاد العام التونسي للشغل. وبما أنه لا شيء يكون دون مقابل في العمل السياسي فإن النقابيين قد قايضوا مساندتهم لبورقيبة ضد بن يوسف بقبوله لبرنامجهم الاجتماعي الطموح الذي حمل ملامح تقدمية لا شك فيها مثل التأكيد على التخطيط والتعليم الإجباري والمجاني والإصلاح الزراعي.
وقد ماطل بورقيبة في الإيفاء بعهوده وحاول تعطيل تنفيذ البرنامج النقابي، ولكن احتياجه الدائم للدعم ووقوع محاولة انقلابية في سنة 1962، قد اضطرته إلى الإقدام على تأميم أراضي المعمرين سنة 1964 وفي نفس السنة تم تغيير الاسم الحزب الحاكم بحذف كلمة الحر وتعويضها بالاشتراكي ومن ثم تدشين سياسة التعاضد التي يعتبرها البورقيبيون إبداعا تونسيا خالصا وطريقا خصوصيا إلى الاشتراكية على الطريقة التونسية. والحقيقة هي أن التعاضد ليس سياسة اشتراكية بدليل حصوله على دعم من البنك الدولي الذي قدم حينها لتونس قرضا فلاحيا مخالفا بذلك قواعد سياسته المرعية حتى الآن وهي عدم تقديم القروض الفلاحية. وكان الغرض من هذه السياسة هو افتكاك أراضي صغار الملاكين الزراعيين ومتوسطيهم لفائدة كبار الملاكين العقاريين والبورجوازية المستثمرة في المجال الفلاحي بدعم من البنوك.
والتعاضد هو عملية أخذ وعطاء، ولكن العطاء يتم مع تحويل الوجهة. ففي المرحلة الأولى استولت الدولة على أراضي الفلاحين الصغار بدعوى التجميع والميكنة،ثم أعلنت عجزها عن إدارتها وفوتت فيها لكبار الفلاحين. وهذه العملية قد حولت الدولة إلى أكبر مالك للأراضي، وحين نقول الدولة فذلك يعني البورجوازية لأن دولة بورقيبة إنما كانت دولة البورجوازية. وفور تخليه عن سياسة التعاضد كشف بورقيبة عن حقيقة توجهاته الليبيرالية وعن تعطشه للاستبداد فاستوزر الهادي نويرة الذي ضمن مصالح القوى الإمبريالية في تونس وسن قوانين 1972 لتأجير اليد العاملة الرخيصة للشركات الأجنبية حسب نظام الاستثناء الضريبي.
وعلى الصعيد السياسي فرض بورقيبة نفسه زعيما مدى الحياة وغير الدستور ليفي بهذا المعنى، وإن كان والحق يقال قد نظم استفتناء لتشريع كل ذلك فكان بذلك، على الصعيد الشكلي على الأقل، أكثر ديمقراطية من الحكام الحاليين أي النهضة والنداء ومواليهم من الانتهازيين وكل من يعترف بدستور المئتين. وإلى هذه الفترة إنما تعود حادثتان يحاول البورقيبيون حجب إحداهما أو إنكارها وتقديم الأخرى على إنها نموذج للحنكة السياسية، والحال إنهما معا تدلان على عمالة بورقيبة وجنونه الذي أخذت أعراضه تتفاقم بتأثير الخرف.
فالحادثة الأولى هي خطاب أريحا الذي ألقاه بورقيبة في فلسطين سنة 1965 وقد طالب فيه بقبول تسوية مع الدولة الصهيونية والرضا بما قسمته الجمعية العامة للفلسطينيين. وهذا الموقف يعني أن بورقيبة يقر بشرعية الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين وأنه يرضى بالاستعمار الاستيطاني ويساوم على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه وفي إقامة دولته على كامل أرضه. وقد كشف بورقيبة بهذا الخطاب عن درجة سحيقة من التردي في العمالة والانقياد للأمريكان ولقي رفضا عاما من الجماهير العربية حتى أنه قد قطع زيارته وعاد يجر أذيال النذالة. والمدافعون عن هذا العهر الاستعماري يقولون أن بورقيبة قد كان أشد فطنة من العملاء الذين لحقوه مثل السادات وملك الأردن وغيرهم من الزعماء العرب الذين انتهوا إلى القبول بحل الدولتين.
حسنا! إذا كان المقصود هو إثبات تفوق بورقيبة على بقية الخونة فهذا ما لا نجادل فيه ونحن نمنحه عن طيب خاطر لقب العميل الأكبر، أما جوهر القضية فأسمى من أن يكون لبورقيبة أو سواه سلطان عليه. والموقف الثوري بهذا الصدد لا يتجزأ وهو يظل وحده الصحيح. نحن لا نعترف بأي شرعية للدولة الصهيونية، وموقفنا منها يتلخص في ضرورة إزالتها بالكامل لتحل محلها دولة فلسطينية واحدة تستوعب كل سكان فلسطين التاريخيين ونسلهم بما فيهم يهود ما قبل 1897، ومع طرد كل من وفد على فلسطين بعدها ومن تحدر منهم. هذه قضية تحرر من الاستعمار ولا مساومة فيها وليس لبورقيبة هنا ولا لسواه أن يساوم على حقوق الشعوب…هذه واحدة.
أما القضية الثانية التي يود البورقيبيون لو أنها لم تكن أصلا فهي حادثة توقيع بورقيبة على إحداث دولة مع ليبيا باس "الجمهورية العربية الإسلامية"، وقد جد ذلك في جربة سنة 1974 وقد وضع بورقيبة توقيعه على ورقة المعاهدة الحاملة لاسم النزل السياحي، ووافق على كل شيء دون أن يُعلِم، فضلا عن أن يستشير، حتى رئيس حكومته الهادي نويرة. لماذا فعل ذلك؟ ببساطة لأن القذافي قد وافق على أن يكون بورقيبة هو الرئيس. والعميل الأكبر يوافق على الوحدة حتى منع الصهاينة إذا كان هو الرئيس. وهذه الفضيحة التي تبين وضاعة بورقيبة وقزميته قد جعلته أضحوكة عند الموافقة وحولته إلى مسخرة عندما تفصى من تبعات توقيعه وفر إلى سويسرا بدعوى المرض تاركا لنويرة مهمة فك ما عقد رئيسه.
لقد انحطت القوى الجسدية والذهنية لبورقيبة في السنوات الموالية ولم يعد يميز شيئا من شيء وأصبح ألعوبة في يد حاشيته وأخذ يعين الوزراء ويقيلهم بعد ساعات وينسى ما قاله فينهى عما كان قد أمر به ويأمر بما كان قد نهى عنه. ومعروف أن نهايته قد كانت على مقاسه حيث انقلب عليه أفَّاق من طرازه كان هو الذي عينه. ولم يحافظ بورقيبة بعد إزاحته من السلطة حتى على ظل من كرامة كالتي احتفظ بها غيره من الحكام المعزولين ممن لم يتزلفوا ولم يتوددوا إلى من خلفهم مثل محمد نجيب في مصر أو بن بلة في الجزائر.
أما بورقيبة فأهدر كرامته وانهار أمام الحذاء العسكري للجنرال زين العابدين ين علي. ولا يمكن للتونسيين أن ينسوا تزلفه الخانع لجلاده وتنويهه به ووصفه بأنه ابنه. وكل ذلك محض كذب وذل مطبوع لأن بورقيبة في مجالسه الخاصة كان يشتكي مر الشكوى من خلفه ويتباكى على منعه من مقابلة من يريد زيارته. وعلى كل حال فلم يكن الراغبون في زيارته كثرا، ذلك أن هذه الجوقة الشوهاء من بورقيبيي ما بعد الموت لم يرتفع لهم صوت في عهد الجنرال ولم يعرف عن أحد منهم أنه قد طلب زيارته أو هنأه بعيد أو هاداه بطرفة في أي مناسبة، إنهم حقا أطفال الميت Enfants posthumes..
وهناك نقطتان تنسبان لبورقيبة ويرى بعض مناصريه أن فيهما الكفاية لتمجيده وأن فضلهما يجبُّ مساوئه كافة، وهما إصدار بورقيبة لمجلة الأحوال الشخصية وإطاحته بالحكم الملكي. ولم يكن بورقيبة مبدئيا في أي من هذين العملين بل صدر فيهما عن انتهازية وأنانية مفرطة. فبورقيبة لم يكن له موقف متسق من تحرير المرأة ومعروف عنه أنه قد ناوأ في الثلاثينيات حركة تحرير المرأة وحرض على التمسك بالحجاب، ثم انقلب بعد ذلك إلى مناوئ للحجاب حتى أنه قد مد يده وأزال حجاب امرأة عن رأسها بنفسه، وهذا طبعا سلوك استبدادي غير مقبول وفيه اعتداء على حرية الملبس. وإقدام بورقيبة على إصدار مجلة الأحوال الشخصية يجد تفسيره في تأثره بمصطفى كمال أتاتورك ورغبته في تقليده.
وبورقيبة قد كان على الدوام مهتز الشخصية ولا بد له من نموذج يقلده وينسخ عنه أعماله. وقد ظل بورقيبة محافظا حتى بعد إصدار مجلة الأحوال الشخصية وقد حرض في أحد خطبه على أن تتولى الشرطة قمع النساء اللاتي يبالغن في التزين، وهذا ما يفصح مرة عن موقف تعسفي ووصائي، زيادة على أن بورقيبة متشبع بنزعة الاستعلاء الذكوري وهو لم يتح مجالا للنساء في حكوماته المتعاقبة ولم يكن يعتبر أن المرأة جديرة بتولي الشؤون الجدية.
ولعل الطريقة التي عامل بها بورقيبة وسيلة بن عمار زوجته الثانية كافية لتبيين نزعته الاستعلائية هذه. فهو بسبب نزوة طارئة لا يعرف كنهها أحد قد طلقها، وهذا ما قد يكون من حقه، ولكن ما هو ليس من حقه وما جاوز فيه كل قصد هو أنه أراد أن يظهرها معتدية وأن يتم الطلاق للضرر بحجة إنها لم تحضر الجلسة الصلحية التي يحتم القانون تنظيمها بين الطرفين قبل النطق بالطلاق، ويعتبر الغائب عنها ساقط الحجة. وهنا ظهرت وضاعة بورقيبة وتسخيره للأجهزة القمعية لمصالحه الشخصية. فقد كان بورقيبة يعلم قطعا بأن وسيلة كانت في الخارج يوم الجلسة (ولا يمكنها ولا لغيرها أن يدخل تونس بشكل قانوني دون علم أجهزته). ومع ذلك حضر بورقيبة يوم الجلسة الصلحية وانتظر المدة التي يحتمها القانون كي يلحظ تغيب المرأة، ويثبت الحق عليها وله.
إن هذا التمثيل السمج والتحامل الفج لا ينبئ عن احترام للمرأة، والرجل الذي يحترم نفسه لا يطلق زوجته على هذا النحو ولا يلجأ حيالها إلى هذه الخزعبلات. أما إعلان الجمهورية فلم يكن ضمن خطط بورقيبة بل دُفع إليه دفعا بفعل استفزاز البلاط الحسيني له وانحيازه إلى الشق اليوسفي. وقبيل الإطاحة بالملك كان بورقيبة أشد الناس تزلفا له وكان يقبل يده على رؤوس الأشهاد. أما وقد أتيحت له فرصة أن يصبح رئيسا فإنه قد اغتنمها حتى يناظر أتاتورك الذي أطاح بالسلطنة ثم بالخلافة. وإذا كان إصدار مجلة الأحوال الشخصية وإعلان الجمهورية، كخطوتين تقدميتين ولا شك، قد تمتا في عهد بورقيبة فإن هذا لا يدل على إنه كان جمهوريا مخلصا أو تحرريا حيال المرأة بحق، فقصارى ما في الأمر إن مصالحه قد التقت مع التيار العام الغالب آنذاك على الدول حديثة العهد بالاستقلال الشكلي.
وقد بين بورقيبة بسلوكه الملكي بعد أن أصبح رئيسا ثم رئيسا مدى الحياة أنه يعتبر الجمهورية مزرعته الخاصة، وقد أنفق بورقيبة الأموال الطائلة في إقامة الاحتفالات الباذخة في ذكرى ميلاده من كل سنة وفي إقاماته الطويلة بالخارج، وخاصة في سويسرا حيث كان يقضي شهورا كل سنة. ويحلو للبعض أن يقولوا، عندما تعوزهم الحجج، بأن بورقيبة، رغم تبذيره وبذخه الرسمي، إلا إنه كان متعففا عن مصادرة ممتلكات الناس لصالحه ولم تكن له ملكيات عقارية أو صناعية ولا رصيد من الأموال السائلة.
والواقع إن هذه "الحجة" خارجة عن الموضوع تماما لسببين على الأقل. فأولهما هو إننا لا نعرف هل كان بورقيبة لا يملك حقا أرصدة في الخارج، وخاصة في سويسرا التي كانت مقصده المعهود. ومعروف أن النظام المصرفي السويسري هو الملجأ المفضل لتهريب الأموال لأنه يحافظ على السر البنكي إلى حد التقديس كما أنه يسمح بفتح حسابات مغفلة الهوية لا يعرف على وجه التحديد صاحبها لأنها مفتوحة بواسطة رقم سري ومن يقدمه يكون له الحق في سحب ما شاء من الرصيد وهي عملية لا تحتاج إلى تعريف بهوية الساحب لأن الحساب لا يحمل أصلا اسما لمالكه.
وعلى هذا الأساس توجد في سويسرا عديد الحسابات التي مات أصحابها منذ عقود ولم يسلموا رقمها لأي كان والبنوك مستمرة في إدارتها للودائع وفي اقتطاع نصيبها. والمعروف أن بعضا من اليهود الفارين من ألمانيا النازية قد فتحوا حسابات من هذا النوع ثم ماتوا أو قتلوا خلال الحرب ووضعت البنوك أيديها على أرصدتهم دون أي أمل في استعادة شيء منها دون الرقم السري، وهذه قضية معروفة لا زال ورثة المودعين يتابعونها منذ نيف وستين سنة دون أي نجاح. وإذن فتبرئة بورقيبة من حيازة ثروة مودعة في الخارج زعم لا يقوم على دليل.
أما إن بورقيبة لم يصادر ممتلكات ما باسمه الشخصي فهو السلوك الطبيعي لأي رئيس له أدنى درجة من الذكاء، وبورقيبة ليس الرئيس الوحيد الذي لم يحز على ممتلكات خاصة في بلاده. والواقع أن الرؤساء الذين يستولون على ممتلكات الآخرين لحسابهم الخاص هم الذين يتصرفون بطريقة غبية ولا فائدة منها. فكل رئيس سينتهي به الأمر إما إلى الموت وهو شاغل للمنصب وحينها فلا حاجة له بالأموال، وإما إلى التنحي القانوني وسيكون له حينها جراية مجزية توفر له من الترف ومن الخدمات التي تقدمها الدولة ما يجعله بغنى عن الأموال المنهوبة.
أما إذا تمت تنحية الرئيس وحكم عليه بالسجن فإنه، أيضا ودائما، لن يستفيد من الممتلكات التاي حازها في دولته. ولذلك نقول بأن عدم الاستيلاء على الأملاك هو السلوك الطبيعي والذي ينم عن حساب ذكي ومن يقوم بعكس ذلك معتوه فهلا، وبورقيبة رغم خيانته وعمالته ووضاعته لم يكن على كل حال غبيا بشكل مطبق.