بعد أن تأكد لنا تسامح وعفو المعذبين في تونس وتنازلهم عن القصاص من جلاديهم خاصة بعد أن أتيحت لهم فرصة أخذ ثأرهم بأيديهم خلال زمن الثورة الأول عندما كانت الضباع مذعورة مستسلمة تنتظر قدرها ، ولكن هل تأكدنا من أن الجلاد سيقبل عفو ضحيته ؟
ترتفع اليوم أصوات الجلادين عبر الناطقين باسمهم في وسائل الإعلام والتي باتت بلا منازع حكرا لجوقة نظام بن علي وعبيده، وهم يديرونها بقوة واقتدار لم تبلغها زمن وكالة الاتصال الخارجي والأقلام المأجورة ،
وهؤلاء الذين سرعان ما عادوا بعد أن اطمأنوا إلى أن الضحايا لن تنفعهم ثورتهم إما لسوء تصرفهم فيها واستهانتهم بخصومهم، وإما لأن العصا الغليظة للنظام الدولي لم تتردد في قرار التصدي لربيع العرب وإن تشدقت بدعم الحريات والانتقال الديمقراطي .
هذه المعادلة في غاية الخطورة خاصة وأن صوت الجلاد أعلى من صوت الضحية. وتياسة الجلادين يمعنون الآن في إهانة الضحايا والسخرية منهم بأشكال مباشرة وغير مباشرة ،
إن الخشية العظمى أن لا يقبل الجلاد عفو ضحيته ، عندها ستوصد أبواب الأمل عند أجيال قادمة لم تتدرب على وضع حد بين الفكرة والعنف كما هو الشأن بالنسبة لأجيال المناضلين الذين أهلتهم أكاديميات الجامعة التونسية ورموز المقاومة المدنية السلمية. ولذلك هم متسامحون ،
أن شباب اليوم له رموز أخرى ، تمتد ما بين الدواعش وعبدة الشياطين ، لذا فإن أقرب طريق يسلكه عند تراجع الأمل مضرّج بالدماء ،
إن فشل العدالة الانتقالية بوابة لحروب أهلية أسبابها كامنة وظاهرة ، فالفقر والتهميش والبطالة يمكن مغالبتها والتعايش معها .
أما فظاعة العنف الرمزي الذي يمارس اليوم على المناضلين والضحايا فلا حدود لفظاعته ، ولا أحد يدرك خطورة نتائجه . وهذا الأمر تهديد حقيقي لسلمية المجتمع ،
لذا ينبغي عدم تفويت هذه الفرصة الحقيقية لإنصاف الضحايا. لو بشكل رمزي ،
فالعدالة الانتقالية ليست قضية سهام بن سدرين ، العدالة الانتقالية قضية كل التونسيين لتجاوز آثار
هولوكست حصل في زمن "الأمن والأمان" وفي زمن "المحرر" و"المنقذ"،
من الملفت للانتباه أن الآلاف من ضحايا التعذيب ، طيلة ستين سنة ، لم يلجؤوا إلى العنف ولم يردوا الفعل بالاغتيالات والتفجيرات والعمليات الانتحارية رغم عنف الدولة الممنهج وفظاعة جرائمها - وبعد الثورة تجلدوا بالصبر ولم ينتقموا انتقاما لا يمكن أن يلام عليه من دمرت حياته وقاسى أبشع أنواع التعذيب ،
هذا العنف لم يكن متبادلا بين الدولة وشعبها ، بل كان في اتجاه واحد ، ولم يكن من فصيلة العنف المشروع الذي تحتكره الدولة ، بل كان من جنس الجرائم الإنسانية الكبرى ،
المعذبون في تونس لم يبادلوا العنف بعنف لأنهم أصحاب فكرة ومشروع ، يحلمون ويعملون على أن تعم وتسود العدالة في هذه الأرض يوما ما ،
المعذَّبون في تونس عندهم يقين أنهم المنتصرون عاجلا أم آجلا وأن ثمرة النصر سينالها شعبهم المسكين حتى وإن لفظتهم الفانية ،
أصحاب الفكرة ، هؤلاء من اليمين واليسار ، عذبوا و شردوا وغلّقت في وجوههم أبواب الأمل . ولكن الأمل انبلج فجأة وبدون مقدمات ذات رابع عشر فكان لهم منّة من الله أن مكنوا في هذه الأرض وأصبح الجلاد مجردا من أية حماية .
هؤلاء المجاهدون المناضلون اختاروا العفو وتمسكوا بالتسامح أملا في مستقبل البلاد وطمعا في غد أفضل للأجيال القادمة خال من القهر والظلم والتعذيب والفقر .
وإذا لم نستوعب هذه الرسالة ، علينا أن ننتظر الأسوأ ….