كان أبي يعمل في منجم الرّصاص ببوعوّان، وفق نظام التّداول الأسبوعيّ على الحصص النّهاريّة والمسائيّة واللّيليّة، وكان بيتنا يبدو منعزلا عن بقيّة الدّوّار…
في الشّتاء، ينزل ليل القرية قبل أوانه بكثير، ويطول أكثر ممّا ينبغي له بكثير
في أسبوع العمل اللّيليّ، نضطرّ إلى المبيت عند جدّتي ( دَادَهْ ) القريب من بيتنا، كي نحتمي بها ونستأنس... ، كنّا ، أنا وأختي، ومعنا عمّي ، الّذي هو في مثل سنّي - لم أكن وقتها قد تجاوزت السّادسة، ربّما - نسهر في "المعمّرة" لمن يعرفها، حول الكانون، ثمّ مع تقدّم اللّيل ننسرب كفراخ الحجل تحت جناحيها، في الفراش على مصطبة من الطّين، نحتمي بها و نتهارج تحتها ... ثمّ تطفئ ضوء "القازة " ( بتثليث القاف ) وتشرع في محاجاتنا، عن "أمّ النّعوش" و"حمّاية ترعتها" ومهرة الجبّانة" و" السّبعة صبايا في قصبايا يطيح اللّيل وناكلهم" …
فتهدأ حركتنا تماما وتلتمع عيوننا في الظّلام وتتيبّس أطرافنا ويجفّ الرّيق في حلوقنا ، ونحن نصغي إلى قصص الرّعب الكثيرة كما لو أنّنا نشاهدها شريطا سنمائيّا، تتولّى فيه دَادَهْ دور المؤلّف والمخرج والسّيناريست وصانع المؤثّرات الصّوتيّة والحركيّة المريبة...
لا أعرف لماذا كانت تتعمّد أن تروي لنا قصص الرّعب تحديدا، ربّما لأنّها لم تكن تحفظ سواها، ولكنّ أغلب الظّنّ أنّها كانت تفعل ذلك كي نخاف وننام ... غير أنّا كنّا نخاف فلا ننام... وتظلّ هي تروي الحكاية تلو الحكاية، ونحن نستزيد، وكأنّها تنثر الملح في عيوننا، فلا ننام، ولا نترك من ينام …
وتتكرّر تلك الحكايات كلّ ليلة، لكنّنا لم نكن نشعر أبدا أنّها تتكرّر، لأنّها في كلّ مرّة تزيدها تفاصيل أخرى هنا وهناك، وأحيانا تغيّر بعض الشّخصيّات، وقد تتعمّد تحريف الأحداث لتخلق عالما جديدا مثيرا في كلّ مرّة، ويحتفظ بأسراره الكاملة حتّى النهاية...
وكان لها راديو ضخم، ذلك الصّندوق الخشبيّ العجيب الّذي سحر النّاس وقتها وسلب العقول، كانت محظوظة لأنّ لديها صهرا يعمل في هولندا، فحظيت بأن تكون أوّل من يستمع إلى " الرّاديون " في الدّوّار …
ذات ليلة، والجوّ عاصف مهيب يزرع البرد والخوف في نفوسنا الصّغيرة... وبعد أن يئست من تنويمنا، فتحت "الرّديون"، فارتفع صوت الكورال :
" شدّ ... شدّ ... شدّوها الخنّابة ...
خشّت بينا فجوج الغابهْ …
يا حليلي ... يا حليلي... "
كان بيت جدّتي هو أيضا معزولا عن باقي الدّوّار، وتحيط به غابات من الزّيتون من كلّ الجهات، تتوسّطها مسارب ضيّقة طويلة ومتعرّجة … وكان نباح الكلاب وقتها وعواؤها وهريرها يتعالى بشكل غريب ومريب، فلم نشكّ لحظة في أنّ هذه "الخنّابة" ليست سوى مهرة الجبّانة أو أمّ النّعوش أو حمّاية التّرعة … وقد اختطفت طفلا صغيرا من أحضان إحدى الجدّات الغافلات، أو هي ، ثعلب نايفة سرقت ديكا من القنّ ، والكلاب في إثرها…
وماذا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟، وأنا أسمع صيحات من نوع " شدّ … وخشّت …وفجوج … وغابة … وحليلي … "
يعضّ الخوف على قلوبنا ككلاّبات، وتزوغ عيوننا في الظّلام القتيم ، ونندسّ أكثر تحت جناحيها الدّافئين، نشمّ رائحتها الحميمة كما لو كنّا نضع كمّامات التّنفّس الاصطناعيّ…
ونظلّ ننتظر الصّباح … لكنّ الصّباح لا يأتي سريعا… حين تكون أمّ النّعوش تنتظرنا أمام الباب …
لمّا كبرت…
عرفت أنّها … أغنية عاطفيّة!!!
وقد تكون أيضا ( والعلم لله ) رومانسية… رومانسيّة أصل !!!