ثمّة عنصران في الحياة السياسية التونسية انضافا إلى طغيان الإيديولوجيا والصراعات العقائدية وساهما بدورهما في الحيلولة دون توفر مقوّمات الإصلاح العميق والشامل الذي تنتظره البلاد. يتعلق الأمر من جهة بتصرف حركة النهضة ونداء تونس كقبيلتين سياسيتين وليس كحزبين وطنيين عليهما مسؤولية العمل على انجاح الانتقال إلى الديموقراطية مع إعطائه مضمونا اجتماعيا عبر حل المشاكل التي قادت إلى الثورة، علما بأن هذا السلوك شمل حالتي المواجهة والمصالحة بينهما.
أما العنصر الثاني فيتمثل في حالة التشرذم البالغة والتشتت الذي تشهده بقية المكونات ودوره في بعثرة الجهود وتبديد الطاقات بما حال دون تشكل حزب أو حزبين كبيرين للتيار الوسطي والتيار اليساري يجعلان من الصعوبة بمكان ارتهان تونس لحسابات قيادتي النهضة والنداء.
المشهد الحزبي : الانقسامية الغالبة والاستثناء النهضاوي :
لئن كانت الساحة السياسية قبل الثورة قد عرفت التشتت فإن ما بعدها سجل تضخما في عدد الأحزاب المكونة واستفحالا للنزعة الانقسامية. ثمة من يعتبر هذه الظاهرة منتظرة وعادية باعتبار ما تقود إليه عمليات الانتقال نحو الديموقراطية من انفجار التعبيرات الحرة وتوالد المشاريع السياسية وتنافس الرؤى والجماعات وذلك قبل أن يتحوّل الأمر من الغليان إلى الاستقرار وتختصر الكثرة في عدد محدود من الأحزاب.
ولئن كان هذا الرأي معقولا إلا أنه لا يفسّر لوحده وضعية شهدت تفريخ وتوالد عشرات الأحزاب، والتي قد يكون عددها بلغ المائتين أو أكثر، مع استمرار هذه الظاهرة إلى يوم الناس هذا مرة في شكل انشقاقات تتحوّل إلى مشاريع أحزاب كما حصل للنداء، ومرة بتعلّة جمع المتفرق كما يحاول البعض اليوم في اليسار.
وبرأينا أن ثمّة عوامل أخرى كانت فاعلة قبل الثورة واستمرت في التأثير بعدها أو تركت المجال لمتغيرات أخرى. منها أن عديد التنظيمات قد نشأت في الأصل حول خلافات إيديولوجية أو سياسية داخل المعارضة، خلافات ثانوية بل تهم تفاصيل يتم تضخيمها والبناء عليها. كما كان يتم استنساخ انقسامات حصلت في فضاءات أخرى مثلما حصل مع التنظيمات الماركسية (تروتسكية، ستالينية، ماوية، الخ )، والقومية العربية (البعث العربي بشقيه العراقي والسوري، الناصريون ، القوميون العرب، العصمتيون، الخ) .
كل هذه المجموعات الإيديولوجية عملت بالمقولة اللينينية. "قبل أن نتحد علينا أن نتباين" . في الواقع يصبح التباين مبرّرا لإقامة الجدران العازلة. ولئن كان السبب هو التفكير العقائدي الدوغمائي الحائل دون البناء على المشترك، فإن عاملا ثانيا كثيرا ما يتدخل في تكاثر هذه الكيانات الصغرى وهو السعي إلى الزعامة والنزعة النرجسية التي ترافقه. فالباحثون عن الزعامة وعن تأبيد الزعامة سواء في أحزاب اليسار أو الأحزاب القومية أو الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية، غالبا ما كانوا وراء الانشقاقات وشكلوا عوائق أمام تقريب التنظيمات التي تتقاسم أهدافا أو مرجعيات واحدة، بل أنهم لا يقبلون بمساعي التوحيد إلاّ إذا ضمنت لهم المكانة الأولى.
في ظل هذه الأوضاع تكاثرت الأحزاب الصغيرة أو "الحوانيت" كما يسمها البعض سواء في شكل طوائف إيديولوجية، ولنا في تاريخ الحركة الطلابية مثال ساطع على هذه الظاهرة أو في شكل أحزاب شخصية وعائلية. ولم يظهر بعد الثورة التونسية سوى حزبان كبيران إضافة إلى النهضة وهما الجمهوري الذي لم تصمد وحدة مكوناته أكثر من سنة ثم صديقه اللدود فعدوّه المعلن حزب النداء الذي لعب زعيمه دورا كبيرا سواء في استهداف الحزب الجمهوري وإفراغه من كوادره أو في خلق وضعية انتهت بانفجار الحزب الذي أسّسه.
وما يهمّنا من كل هذا أمران : أن هذه الكثرة بما تعنيه من تبعثر الجهود وتنافر الإرادات وتغذية النزاعات عطّلت كل جهد حقيقي للإنكباب على مشاكل البلاد، وأنه وفي انتظار تأكيد أو تنسيب الاختيارات والاتجاهات التي عبّرت عنها الانتخابات البلدية لسنة 2018، فإن ثمّة حزبين فقط يمثلان قوة وازنة وفاعلة على الصعيد الوطني ويمتلكان ماكنة تنظيمية وإمكانيات مادية ضخمة وشبكة ولاءات وعلاقات في الإدارات والمؤسسات وجيشا من المنخرطين. يتعلق الأمر بقبيلتين سياسيتين كبيرتين هما النداء والنهضة.
نستعير هنا مفهوم القبيلة الذي يشير عادة إلى جماعة تقوم على علاقات القرابة الحقيقية أو الوهمية والتي تشكل عامل لحمة يقويه العيش المشترك والمصالح المشتركة. هذا المصطلح نستلفه لتوصيف واقع أحزاب سياسية انخرطت في ظروف محدّدة في ممارسات وثقافة وآليات اشتغال مشابهة لما يميّز القبيلة كالعصبية والانتصار للقريب ظالما أو مظلوما والسعي لتحصيل الغنيمة المادية أو السياسية، بالإضافة إلى الانقياد لمشيخة كاريزمية.
كما تأخذ بالاعتبار التاريخ والواقع العربي الذي عرف تداخل النموذج القبلي وأنموذج الهيمنة الإرثية بما يميّزه من شخصنة للسلطة وخوصصة للدولة في حال التمكّن منها. والملفت للنظر هنا هو الكيفيات التي يحصل بها التداخل بين هذه الأشكال من التنظيم والسلطة التقليدية وتمفصلها مع خصائص الحزب كتنظيم سياسي حديث.
بالنسبة للقبيلة السياسية الحديثة المتمثلة في حزب النداء فهي نتاج رسكلة وبالتالي إعادة تشكّل للقوى التي ارتبطت بالتجمع الدستوري فخدمته وخدمها بحكم تحكمّه في الدولة وممارساته الزبائنية، وارتبطت به مصلحيا وعاطفيا وايديولوجيا.
لقد جمعت هذه القوى بين تعظيم لبورقيبة وما يرمز إليه وبين جبن ونفاق جعلها تسكت عمّا فعله به بن علي حيّا وميتا. ومع رحيل رئيسها وما أثاره فيها من فزع، واثر قرار حلّ حزب التجمع، وجدت منقذا لها في الشخصية الكاريزمية لقائد السبسي، والذي يذكّر ببورقيبة من حيث تاريخه وثقافته السياسية وحنكته وحتى هيأته ومظهره، وكأنه الأب المؤسس وقد بعث من جديد، وقد استطاع أن يقوي الجذع الدستوري بفروع من إطارات الدولة ومن اليسار والنقابيين والمناصرين والمناصرات الذين هبّوا إلى النداء على أرضية معاداة حركة النهضة.
وبالنسبة للإطارات فرحلت اليه طمعا في احتلال مواقع المسؤولية بالوزارات والإدارات والمؤسسات، تبعا لنفس الثقافة الزبائنية التي رسخها النظام السابق.
أمّا قبيلة النهضة، ومثلما أوضحنا في مقال سابق لنا بصحيفة "المغرب" بعنوان "الطائفة والقبيلة والحزب"، فقد كانت في لحظة تحاول فيها الخروج الصعب من وضعية الطائفة إلى وضعية الحزب السياسي عندما حوّلها القمع الشرس لنظام بن علي إلى عائلة كبرى أو قبيلة سياسية، صنعت الفجيعة أكثر من العقيدة والإيديولوجيات لحمتها ووحّدتها المأساة رغم كل الانتقادات التي تناولت قيادتها للأزمة مع النظام والتباينات الفكرية والسياسية الأخرى التي لا يخلو منها حزب سياسي.
ولكن القمع الوحشي لرجال ونساء حركة النهضة أتاح لها، ولو بصورة غير مقصودة، الاستثمار في صورة الضحية، كما حصل في انتخابات 2011 عندما كفّر الشعب التونسي لها ولغيرها من الإسلاميين عن سكوته طيلة عشرين سنة.
كما تدّعم منطق القبيلة بدل أن يتراجع إثر الثورة، وذلك خلال المواجهات التي جدت مع القوى الحداثية قبل وأثناء وإثر قيام حكومة الترويكا والاتهامات التي وجهت إليها بخصوص العلاقة بالجهاديين والإرهابيين. وباختصار، نتيجة الإحساس، بأنها مستهدفة وأن على مكوناتها الحفاظ على الوحدة المقدسة للجسم النهضاوي. ولعل في هذا ما دفعها أيضا، في نوع من المفارقة، إلى العمل على التموقع والانغراس في مؤسسات الدولة وتوزيع أبنائها أو المؤلفة قلوبهم على الإدارات، حتى مع غياب الكفاءة والاقتدار، وهي ممارسة لم تحصل حتى في عهد بن علي.
هاتان القبيلتان اصطدمتا منذ تأسيس حزب النداء في أواسط 2012 والى حد اعتصام الرحيل في 2013 ثم قبلتا وبصعوبة فكرة الحوار الوطني لتنتهيا إلى علاقة شراكة سياسية تصل أحيانا إلى حدّ التواطئ والتخلي عن الالتزامات السابقة لكل منهما. ومن المهم هنا التوقف عند خلفيات وتعبيرات هذا التحوّل الذي يمكن اعتباره بمثابة "انقلاب" في الحياة السياسية، وكان من نتائجه إحداث صدمة في صفوف الجناح الندائي المؤدلج والمعادي بضراوة لما يسمّيه "الإسلام السياسي" أو "الإخوان" وهي التي أدّت إلى تصدّع صفوفه.