إن المطالع لتراثنا والقارئ لتاريخنا والمتمعن لما قدمه خيرة الرجال المصلحين الصالحين من أفكار ومواقف عبر حقب زمانية متتالية يتألم لما آل له واقع أمتنا من رداءة وتقهقر وحقارة رغم مساهماتهم القيمة وأفكارهم الإبداعية النيرة فلقد أرادوا الإصلاح وما بخلوا على قومهم بالفكرة والنصيحة والرؤية والحكمة.
فمن المسؤول عن خيبتنا وديمومة فشلنا وبؤسنا؟ لماذا لم تحصل النقلة والقفزة النوعية؟ هل هناك تقصير وسوء تدبير؟ هل هناك سوء فهم ووهم في الطرح والمعالجة والفعل؟ هل تباطأ الركب في إنتهاز فرص الفعل والتغيير والممارسة الثورية؟ هل ان الإستجابة لم تكن بقدر التحدي؟ هل إنقطع حبل النجاة لرخوته وضعفه وإنهزمت همة الرجال أمام الإغراءات والإكراهات والتوجيهات والإملاءات فنسوا الواجب والحق وخارت عزائمهم وذبلت عقائدهم وضمرت مبادئهم؟
"1-منهم من قضى نحبه : "
لقد قيل ما قد قيل وحبرت الكتب والوثائق بالتحاليل والملاحظات والإستنتاجات وشتى المعالجات والحلول لواقع الأمة الإسلامية والعربية من مفكرين ومصلحين صادقين مخلصين متألمين لمصير الشعب العربي والأمة الإسلامية . لكن هل تقدمنا بعد هذا الفيض من الأفكار والكتب والمحاضرات؟
لقد بقيت أفكارهم حبر على ورق في كتب موجودة غير مفقودة فكتبهم قد قرأت وما أرادوا إيصاله من معلومات قد وصلت إلى قارئيهم ومستمعيهم ومحبيهم، ولكن لم يتطور الواقع ولم ننهض كبوة تتلوها كبوة وخيبة تنادي خيبة أخرى لتستقر فلقد زادت خيبتنا وتذوقنا مرارة واقعنا ولم نفارق بؤس حالنا. إذن لا بد من وقفة تأمل عميقة وتريث لفهم ما يجري وفرملة النسق السريع للإحاطة بإحاطتتنا والتفكير خارج الزمن والسياق.
لقد تتالت كتابات وأفكار المصلحين فلقد تداول على إثراء المد الإصلاحي والثوري في كل حقبة زمانية من تاريخ أمتنا القريب غير البعيد رجال من خيرة الأمة صادقين مخلصين صاغوا بعقولهم أفكارا بناءة وبصفاء وجدانهم شعورا وإحساسا صادقا نبيلا يسري ويقذف في شعور ومشاعر المخلصين الصادقين القارئين والمستمعين المحبين لهم، ولكن لم يتغير الواقع الذين سعوا جاهدين لإصلاحه وتغييره وتثويره بل زاد تقهقرا والحالة سوءا.
لقد حذروا من الإستعمار المباشر وغير المباشر وألاعيبه وأساليبه القذرة في حواراتهم وكتاباتهم السياسية، دعوا إلى ضرورة بناء تعليم وطني على أسس صحيحة ترتبط ببيئتنا وتراثنا والتمسك بهويتنا لكي نبني ونصوغ جيلا من تربتنا يعز عليه ترابنا وتراثنا ويدافع شامخا عن هويتنا. لقد سعوا إلى تثبيت دين القيمة دين العلم والعمل لا دين وعاظ السلاطين وتغييب الجماهير، سعوا إلى ترسيخ إيمان لا يشوبه نفاق وتجذير القيم السليمة ومحاربة القيم السقيمة.
فلقد حاربوا على واجهات عديدة سياسية، إجتماعية،ثقافية،دينية... حذروا من بؤس واقعنا واستبداد الحاكمين وغشاوة وجهل المحكومين المحرومين من حقوقهم. لقد رافقتهم نباهتهم الذاتية النفسية والإجتماعية وما خضعوا لأساليب وأدوات الإستحمار بل كشفوا ألاعيبه وخداع المستحمرين، فلا هم باعوا ضمائرهم ولا خانوا عقائدهم ودينهم ونبيهم ولا أشتروا دنياهم بدينهم لعمق إيمانهم وتمسكهم بمبادئهم وأصالتهم وهويتهم فهم ملح الأرض وتربتها الصالحة ومعدنها النفيس.
كتبهم معروضة إلى يومنا هذا تقرأ وأفكارهم منشورة معروضة تشهد على شهادتهم على عصرهم وصدقهم. إنهم من فئة الرجال "الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه" ولقد قضوا نحبهم فرحمة الله عليهم جميعا. ولكن لم يتغير الواقع وزاد سوءا وقتامة ولم يحمل مستقبلنا بشائر خير وأمل!!! هل أنهم أرادوا إزالة جبلا راسخا ثابتا بمعاول وفؤوس وسيوف رخوة لا تقوى على إزالة طبقاته وصخوره؟ لا أعتقد ذلك بتاتا فمعاولهم وفؤوسهم وسيوفهم مصقولة بقوة إيمانهم وصدق عزيمتهم وصفاء أرواحهم.
إن التغيير يتطلب جهدا كبيرا وصبرا ومصابرة ومثابرة ومداومة ومقاومة يحتاج إلى حبال ورجال وهم الرجال الذين أمدوا الحبال للجذب فهل تعاون كل الرجال على الجذب وقوة الدفع لتشغيل المعطل وإنقاذ الغريق وقلب معادلة الواقع رأسا على عقب؟؟؟ إن الإجابة لا يمكن أن تكون إلا بالنفي لأن الواقع استمر بعيوبه وهناته ونقائصه وعلله الظاهرة والباطنة رغم بعض المحاولات، فلقد فاضت الأرض بأرجاسها وأدناسها وتمكن وساد سفلة وحثالة القوم وتكلم الرويبضة واستفاد الإنتهازي اللئيم وسحق الضعيف البائس المحروم وأهين الإنسان وسلبت القيم وخرت العزائم وضعفت النفوس في هذا الواقع المنكوس المعكوس.
ما صلح حال الهمج الرعاع فلقد زاد تنطعهم وفوضويتهم وعدمهم. إن الثورة قلب للموجود وللواقع المعاش بكل شروطه وآلياته فهي تغيير للمفاهيم والأذهان والسلوكيات وكنس المفسدين وتثبيت المصلحين في مواقعهم الأمامية وقيادة الكادحين الصالحين، فليست تغييرا شكلا بشكل آخر وتجميلا للواقع بإصلاحات جانبية هامشية لا تمس الجوهر فلا تغير النفوس والأرواح بل تزين الأجسام وتجمل الأشباح والواقع وتحافظ على المصالح الشخصية والإمتيازات.
إن التطور المادي والتكنولوجي السريع بنسقه وآلياته وميكانزماته وفنونه وأذواقه قد شكل قالبا ماديا ومعنويا استوعب الواقع وصاغه نموذجا ذا سحنة جاذبة للنفوس الضعيفة وعامة الناس وسقط متاعها ومانعة للبصائر عن كشف معانيها وإكتشاف حقيقتها. فالغرب المنتصر زاد تقدما ورخاء وفرض نسقه ومثاله وحضارته التي هي حضارة الأشياء لا حضارة الإنسان، فلقد تاه الإنسان في الشرق والغرب سواء في مجتمع إستهلاكي يتدافع أفراده متنافسين متطاحنين أساسهم المادة وغايتهم توفير حاجياتهم المادية وقضاء مصالحهم الشخصية منطلقاتهم واقعهم الموضوعي بكل شروطه ووسائله وأدواته المادية.
فكيف لهذا الإنسان في حضارة الأشياء أن يفكر من خارج المادة وكثائفها وأن يتجاوز واقع الحس وآثاره المتجذر المنطبع في الصورة الجسدية image corporelle. من يخترق العولمة ونتائجها وتأثيراتها وآثارها العميقة على الإنسان والأوطان؟ إن هؤلاء الرجال الصادقين الذين تركوا اقوالهم وأعمالهم ومواقفهم وكتبهم. إجتهدوا وأخلصوا وسجلوا في صفحات التاريخ أنهم كانوا شاهدين على عصرهم بما قدموه ولقد قضوا نحبهم ولم تتحقق آمانيهم بعد غيابهم خاصة في واقعنا العربي رغم صدق ما كتبوا ورجاحة أفكارهم وثوريتها وتقدميتها. إذن علينا أن نتريث قليلا وأن نعيد الكرة بعدهم مرات ومرات حتى تفتح الأبواب المغلقة بعد طرقها مرارا وتكرارا بشدة العزائم وصلابة المواقف وهذا دور مناط بعهدة "من ينتظر" .
"2- ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا : "
إن خاصية هؤلاء الرجال أنهم من طينة أولئك الذين رحلوا فمنهم من ينتظر مازالت مسيرة حياتهم مستمرة لم يغيبهم الموت بعد ومنهم ايضا آخرين من الأجيال القادمة الذين سيلتحقون بمن سبقوهم.
فأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمة الخير والخير موجود غير مفقود في الأمة إلى يوم البعث رغم جسارة الباطل وطغيانه فالصراع متواصل بين الحق والباطل إلى قيام الساعة.
هؤلاء من ينتظر خاصيتهم الاخرى انهم لم يبدلوا تبديلا ثابتين متمسكين بالقيم والمبادئ غير مبدلين ولا محرفين ولا متأولين.
طوبى لمن يتمسك بالثوابت ولا يغير ما أنزل الله بما قاله البشر ولا تكون خلفيته ومرجعيته الفكرية والعقائدية خارج دائرة الوحي الإلهي والنور الرباني فالنصر من عند الله سبحانه وتعالى.
فلا بد من تجميع كل القوى الخيرة في جبهة صمود جامعة وإرساء مدرسة فكرية إصلاحية من روح وأفكار وشعور ومشاعر ما قدموه المصلحون السابقين بإنشاء بنك معلومات ومعارف يجمع ويثبت ويستثمر ويثمر ما قالوه رواد النهضة في قالب إجرائي كرأسمال رمزي ومعياري لتنوير وتطوير وتثوير الواقع وتجاوز القالب الساجن للنفوس المعيق للتطور الذاتي والموضوعي للأمة.
حتى لا ينسخ ويمحي الواقع المعاش ومجريات الاحداث والتقلبات والتغيرات ما دونوه وتركوه فلا يضيع تاريخنا الاصلي ونستبدله بتاريخ وزمن ممسوخ غير مرتبط بماضينا كأننا قد حللنا وجودا بدون بعد ولا خلفية ولا مرجعية ولا هوية.
ان الامانة المناطة بعهدة "من ينتظر وما بدلوا تبديلا" تنوء بحملها السماوات والأرض والجبال فدورهم اساسي وجوهري لاحداث التغيير ومحاربة العادة والركود وتقويم كل الاعوجاج والانحرافات وهم اولى بالقيام بكل ما يفرضه الواجب لانهم من صفوة المؤمنين بما أنهم لم يبدلوا تبديلا فلا يستوعبهم الواقع بلحظاته وخطراته والدنيا بشهواتها ولذاتها فلن يفل عزمهم وتخر عزائمهم ففي ارواحهم شعلة الاداء وروح وبذرة التغيير.
التغيير جهد مستمر دراسة للعلل وايجاد الحلول وسبل العلاج واتباع سبل الوقاية للحفاظ على كل الجوانب الإيجابية.
الدين الذي لا يحرك سواكن النفوس لنيل حقوقها وإرساء العدل والحق لا يجدي نفعا كدين وعاظ السلاطين، الدين دين الأنبياء والرسل و الجماهير والمحرومين وكل الأحرار المتوثبين لنيل حقوقهم والثورة على الظلم والظالمين والمستبدين دين الصحوة والثورة المستمرة والعبادة والهمة لا دين العادة والركود والاستسلام والوهن.
كل فكر او ممارسة خارج دائرة الوعي بالذات والمجتمع تبتعد عن الحق والسعي لإقامة العدل هو استحمار واستغفال واستغلال للجماهير وتأبيد وديمومة بؤسهم وإستعبادهم وإذلالهم وإخراجهم عن المشاركة الفعلية في الحياة والحكم وتركهم يسيرون دون هدى ولا بوصلة متناقضين مع ذواتهم وطبقتهم ومصالحهم هو عين الإستغفال لنباهتهم وسلب إرادتهم وإخراجهم من معمهة السياسة والتفكير في شأنهم العام.
متى نستفيق وننهض ونغادر شرنقة الجهل والوهم والمرض والعجز والكسل والفشل؟
متى تتحد الطبقة الكادحة وتجتمع على قواسمها المشتركة متحدين فعند الفرز يتضح جليا انهم غير مختلفين حقيقة رغم تباين بعض الافكار والاراء.