محفزات الصراع التركي الروسي: التاريخ والجغرافيا والتطلع لدور قيادي

Photo

شهدت الأيام الماضية تصعيدا في اللهجة بين موسكو، الداعمة لنظام الرئيس بشار الأسد والتي تكثف غاراتها الجوية على المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وأنقرة الداعمة للمعارضة والرافضة لأيّ توسع كردي على مقربة من حدودها؛ فيما يرى خبراء أن هذا التصعيد هو أشبه باختبار قوة عنيف بين “الصديقين” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان.

أتى خيار تركيا الذي اتبعته، منذ قيام الجمهورية، بعدم إثارة مشاكل مع جيرانها (سياسة صفر مشاكل) أكله في علاقاتها مع روسيا؛ التي كانت إلى سنوات قليلة ماضية على درجة من التعاون والشراكة. وقد تمكّنت روسيا، تحت حكم فلاديمير بوتين، وتركيا في عهد رجب طيب أردوغان، بشكل كبير من تحييد العداء والتوتر في علاقاتهما الثنائية واستطاعتا تحقيق تعاون عملي ومثمر.

بيد أن هذه العلاقة التقاربية أصبحت أكثر ميلا إلى الصراع بعد أن فرّقت المصالح في أوكرانيا، ثم بشكل أكبر في سوريا، بين بوتين، الذي يرى نفسه خليفة القيصر، وأردوغان، حفيد العثمانيين، لتعود العلاقة بين أنقرة وموسكو إلى طبيعتها التنافسية والعدائية التي كانت عليها روسيا القيصرية والدولة العثمانية.

وتحوّلت الصداقة بين القيصر والسلطان إلى منافسة. ووصلت إلى حد فرض روسيا عقوبات اقتصادية على أبرز شركائها التجاريين، في وقت كانت تعاني فيه من أزمة اقتصادية؛ لكن بوتين تغاضى عن ذلك، بعد أن اتّخذت الحرب في سوريا مسارات جديدة.

وأصبح كل طرف يسعى إلى إنقاذ ماء وجهه، والتأكيد على وزنه كلاعب مؤثّر فيما يجري في سوريا، لأن كل عقد المنطقة وأزماتها تلتقي هناك، والطرف الذي سيخرج بأكبر قدر من المرابيح سيكون الأقوى؛ وكل واحد منهما يستحضر ذكرى حرب القرم (1853-1856) التي انتهت بتوقيع معاهدة باريس وخسارة تركيا لنفوذها في شبه جزيرة القرم فيما تعطّل الجواد الروسي في البحر الأسود لأكثر من 15 عاما.

واليوم، تقف القوات العسكرية لكل طرف في مواجهة مباشرة على جانبي الحدود السورية، فضلا عن دخول ورقة الأكراد على الخط؛ وهو ما يعني الوقوع في معادلة متناقضة بين القوى العظمى والإقليمية في علاقتها بطرفين، يقف أحدهما ضد الآخر؛ فتركيا، حليفة الولايات المتحدة، تجد نفسها في مواجهة سياسة موسكو وواشنطن اللتين تدعمان القوات الكردية.

وتنذر الاشتباكات بين تركيا ووحدات حماية الشعب الكردي بخصوص منع سقوط بلدة أعزاز بريف مدينة حلب في أيدي الميليشيات الكردية بتعقيدات إضافية في مسار الأزمة السورية المتلاحقة في تطوراتها وسيناريوهاتها المحتملة؛ حيث تحاول القوات الكردية إخراج المعارضة من معاقلها في شمال سوريا، وقطع أيّ خط إمدادات لها عبر الحدود التركية السورية.

وقد بات من الواضح أن القوى الكردية غيّرت سياستها من السيطرة على القرى الكردية إلى السيطرة على الحدود التركية السورية (تل رفعت)، التي لا يوجد بها أكراد. ويصرّ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على ربط الكانتونات الخاصة به في عين العرب وعفرين، وفتح ممر لحي الشيخ مقصود بالمنطقة الكردية في حلب، ما يعني أن الأكراد تحوّلوا إلى أداة في يد روسيا للانتقام من تركيا والمعارضة السورية المعتدلة.

وفي سياق استغلالها للورقة الكردية فتحت روسيا ممثلية للأكراد في موسكو في 10 فبراير. ورفضت إدراج حزب العمال الكردستاني في خانة المنظمات الإرهابية. وأعلنت عن إمكانية تسليح الأكراد.

وفي ردّها على هذا التصعيد، عمدت تركيا إلى تحريك ضغوطات مباشرة عبر قيام جماعات مسلحة كـ”أحرار الشام” و”تجمع استقم كما أمرت” و”جيش الثوار” لشنّ هجمات مسلحة على البلدات والقرى الكردية في حلب. وذكرت وكالة أنباء دوغان التركية أن مدافع تركية على الحدود في مدينة كلس جنوب تركيا جددت قصفها للمواقع الكردية شمال سوريا، وأن الجيش التركي رد بذلك على النيران التي أطلقتها ميليشيات وحدات الدفاع الشعبي الكردي.

وكانت تركيا في الفترة الأخيرة، ومع تعقّد الوضع أمامها، سعت إلى فتح قناة تواصل مع المملكة العربية السعودية، والترويج لنفسها كقوة قادرة على المساهمة في تشكيل تحالف سنّي قويّ. ويتنزّل ضمن هذه الاستراتيجية ترحيب أنقرة الشديد بإمكانية القيام بتدخّل عسكري برّي في سوريا، تقوده المملكة العربية السعودية.

تجاذبات التصعيد التركي الروسي

الصراع بين روسيا وتركيا وصل ذروته بإسقاط القوات التركية لطائرة روسية في 24 نوفمبر 2015، حيث قضى هذا الحادث بالكامل على أيّ أرضية مشتركة بين الفريقين، هذا في الوقت الذي خرج فيه اجتماع فيينا في 14 نوفمبر 2015 بأرضية سياسية، قدمت لأول مرة جدولا زمنيا لحل الأزمة السورية. وطرح في حينه عدة علامات استفهام على إسقاط الطائرة العسكرية الروسية في هذا التوقيت، والذي أتى في نظر المراقبين كردّ على محاولة تطهير محيط اللاذقية، وتركيز الضربات الجوية على مناطق جبل التركمان، خاصة منطقة “بيربوجاك” التي تهدد مرتفعاتها القاعدة العسكرية الروسية في اللاذقية.

في الأثناء، قامت وزارة الدفاع الروسية، كردّ على إسقاط الطائرة، بقطع جميع الاتصالات العسكرية. وتعليق الخط الساخن مع أنقرة. وسحب ممثل أسطولها البحري في البحر الأسود المكلف بالتنسيق مع تركيا، ثم وضعت الطراد موسكو المزود بمنظومة صواريخ فورت المضادة للطائرات في ساحل اللاذقية، وهي بوسعها إصابة ستة أهداف في وقت واحد.

وقام الرئيس الروسي بالإعلان عن روزنامة من القرارات والعقوبات الاقتصادية تقضي بحظر استيراد البضائع التركية ووقف المبادلات التجارية ووقف رحلات الطيران والعودة إلى العمل بنظام التأشيرات ودعوة السياح الروس للعودة إلى روسيا. فيما كان نشر صواريخ نظام الدفاع الجوي إس400 في مطار حميميم العسكري بريف اللاذقية، يصبّ في تغطية مدى جوي واسع يصل إلى 400 كم (شمال سوريا والجنوب التركي، ومناطق شمال إسرائيل ولبنان)، ويمكنها أن تصيب 36 هدفا في وقت واحد، ثم منظومة سولنتسيبيوك الصاروخية التي يمكنها دك التحصينات الجبلية.

وهذا الأمر يراد منه في الحقيقة، فرض تواجد استراتيجي في شرق البحر المتوسط، وفكّ أيّ تطويق ممكن لتحالف الناتو، والتأكيد من جديد على الدور الروسي المحوري في منطقة بالغة الحساسية والأهمية الاستراتيجية بالإعلان عن تأسيس تعاون استخباراتي بين روسيا والعراق، وإيران وسوريا منذ سبتمبر 2015، وكذلك الاحتفاظ بوجود دائم في ميناء طرطوس واللاذقية، كما التهديد بالرد بالمثل في حالة أيّ تحليق للطيران التركي في الأجواء السورية والقريبة منها.

ثم عمدت روسيا إلى تحريك حاملة الطائرات المروحية فيتس أدميرال كولاكوف التي تحمل مروحيات ك-27، وهي مضادة للغواصات.

تحجيم إيران أيضا

يبدو أن التعامل الروسي بدأ يتجاوز مستوى احتواء السياسة التركية في سوريا، وذلك من أجل عزل تركيا وإقصائها من الساحة السورية نهائيا بعد إسقاط موسكو فعليا خيار بناء منطقة حظر طيران في سوريا على الحدود التركية وإقامة منطقة آمنة.

لكن هذا التدخل قطع في ذات الوقت الاستفراد الإيراني بالشأن السوري، ففي الوقت الذي تنظر فيه طهران إلى الملف السوري من زاوية طائفية، ما زالت تنظر موسكو إليه من زاوية وطنية، والمحافظة على كيانه موحدا، وهو ما يصب في منع تشكل سوريا إيرانية. وهي في هذا تلوّح بضرورة التعاون بينها وبين واشنطن والرياض في محاربة تنظيم داعش، بعدما اتخذت أبعاد أخطاره نطاقا إقليميا وعالميا، وذلك على الرغم من اختلاف المواقف بينهم بشأن حل الأزمة السورية.

ويمكن تقييم نتائج السياسة التركية في رعايتها للإسلام السياسي في سوريا، وتوظيف أوراقه لتحقيق أهداف استراتيجية في المنطقة، بأنه بدأ يرتد سلبا على المعارضة السورية باقتراب موسكو من الحدود الجنوبية التركية، واتساع نطاق التحرك الكردي في الشمال. بالمقابل، كان من المنتظر تقديم القوى الغربية والناتو الدعم لتركيا بوصفها العضو الحليف، لا سيما أن الحاجة إليها مستمرة في إبقاء اللاجئين داخل أراضيها.

لكن المواقف الغربية تلكأت وهي تدرك بأنه لا مناص من دور روسي لحل الأزمة السورية وفي الحرب على تنظيم داعش، بحيث من المستحيل إيجاد حل في سوريا دون روسيا كما صرح وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند، وهو ما يكشف عنه أيضا اقتراب فرنسا كثيرا من روسيا، واعتبارها شريكا أساسيا في الحرب على الإرهاب، بينما تنتقد أردوغان في ما يخص معالجته التسلطية للقضية الكردية.

ويزداد الوضع تعقيدا على تركيا، بعد أن نجحت روسيا في إقناع واشنطن بأولوية مكافحة الإرهاب على حسم مصير الأسد. وسارعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بمطالبة الجانب التركي بالكف عن ضرب معاقل القوات الكردية، خاصة، وأن هذا التصعيد في نظرهما ينذر بإفشال اتفاقية ميونيخ التي دعت إلى وقف الأعمال العدائية على الأراضي السورية، وإدخال المساعدات الغذائية إلى المناطق المحاصرة في دير الزور ومضايا وكفرايا والمحمدية وكفر الباتنا.

ومن المقرّر أن يعهد أمر إدخال المساعدات إلى لجنة روسية أميركية مشتركة، وهذا يعني ظهور دور أبرز لروسيا في إدارة الموقف السياسي والعسكري في سوريا، مما يفتح الباب واسعا أمام صراعات أو تسويات جديدة، من شأنها أن تؤزم الوضع الإقليمي أو انفراجه على حلول واقعية.


*د. حسن مصدق : باحث جامعي، مركز أنظمة الفكر المعاصر، جامعة السوربون.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات