بعيدا عن التحليلات التي يتبناها ما ترسّب من "مخبري الدولة الأمنية" التي تركها الرئيس بن علي رحمه الله، وما ترسّب من "الكتبة الأيديولوجيين" لزمن الحرب الباردة، فقد أثبتت وقائع السنوات العشر الأخيرة للانتقال الديمقراطي، وخصوصا أشهر الانقلاب الفائتة، أن الاسلاميين هم القوة الشعبية الأساسية تقريبا المنحازة صراحة للديمقراطية، بالاضافة الى نخب ليبرالية ذات مرجعيات متعددة دستورية وليبرالية ويسارية، فيما تتبنى القوى الشعبية الاخرى اطروحات شعبوية وفاشية إقصائية لا غبار عليها، ترى الخلاص في غلبة جزء من التونسيين على جزء اخر وقهرهم بأساليب متعددة سبق ممارستها في تجارب الحكم السابقة ما قبل الثورة.
وبصرف النظر عن الأخطاء المرتكبة في تسيير دواليب الدولة، فقد وصل الاسلاميون الى الحكم عبر صناديق الاقتراع وبالانتخابات، وحرصوا على تكوين ائتلافات حكومية مع غيرهم ابداءًا منهم لحسن النية والرغبة في بناء حالة تعددية خلافا للمعمول به فيما سبق، وقدموا في هذا السياق تنازلات جعلتهم اقل تمثيلا في مؤسسات الحكم من حجمهم الانتخابي والبرلماني غالبا، وغادروا الحكومة وتنازلوا عن رئاستها، وبصرف النظر عن دواعي ذلك من الناحية السياسية فإن مثل هذه الممارسات لا يمكن ان يراها عاقل حسن النية الا من باب الرغبة في حماية التجربة الديمقراطية وتحصين مسار الانتقال، ولست أدري لو تمكنت بقية القوى السياسية الكبرى من نفس المكانة هل كانت تقدم على ذات السيرة أمل لا؟
الثابت أيضا ان الاسلاميين في التاريخ المعاصر، خلافا للبقية لم يبلغوا الحكم بالانقلاب اما عسكريا او مدنيا، ولم يقيموا أنظمة ديكتاتورية وفردية تسلطية استمرت لعقود كما هو الحال مع غيرهم من العائلات السياسية الكبرى وطنية وقومية ويسارية، وأن تحوّل التيار الغالب فيهم إلى تبني النظام الديمقراطي والدولة المدنية، كان أسرع وأوضح مما هو حال بقية التيارات الغالبة في العائلات الأخرى، والتي ما تزال مشدودة بوضوح الى نماذج حكم سابقة وحالية ذات نزعة استبدادية فردية، بل ان بعضها ما يزال يرفع صور مستبدين في الماضي والحاضر يمجّدها ويشيد بها دون خجل أو حياء، فيما يطالب الاسلاميين بالنقد والمراجعة وهو أولى بها.
لكنَّ حماسة الاسلاميين في تونس دون سواهم للمشروع الديمقراطي واخلاصهم للمسار الانتقالي، وسعيهم الى بناء تحالفات جبهوية مع النخب التي تتقاسم معهم هذه القناعة من اجل الوقوف في وجه المشروع الديكتاتوري الناشئ وكسر الانقلاب على دستور الجمهورية الثانية، لا يمكن أن يحجب حقيقة مفارقة هي أن استمرارهم ك"إسلاميين" أصبح يشكّل "معوّقا" بالمعنى الفكري المعرفي الإبستيمولوجي وبالمعنى السياسي العملي الميداني، لنموّ الديمقراطية بالمفهوم الذي استقرت عليه عالميا، حيث تحوّلوا إلى حجّة عليها ومبرر للانقلاب على مؤسساتها ومصدر للانشداد الى كل ما هو ايديولوجي بالمعنى المنغلق الضيق والى كل ما هو "بوليسي ومخابراتي وتضييقي أمني" بحجج معارك الارهاب ومكافحة الجماعات المتطرفة العنيفة التي تتخذ للأسف الشديد من المرجعية الاسلامية المتشددة أصلا ودعوة وممارسة.
إن الاسلاميين مطالبون بتقديم مزيد من التضحيات في سبيل استئناف مسار الانتقال الديمقراطي وورشة القطيعة مع التراث الاستبدادي، وخاصة نزع الحجج والمبررات الأيديولوجية من ايدي أولئك الذي يرفعون "قميص شكري" كذبا وزورا، أو يرفعون صور صدام حسين وغيره من طغاة العرب ومستبديهم ممن ساموا شعوبهم سوء العذاب وهم في تونس يزعمون الغيرة على التعددية والديمقراطية ويأمرون الناس بالبرّ وينسون انفسهم..وفي مقدّمة التضحيات المطلوبة مساعدة تونس على التحول من الصراع الايديولوجي الذي لا تتحمله الأنظمة الديمقراطية الى التنافس البرامجي..
وبعبارة موجزة فقد ان الاوان للإسلاميين أن يتحولوا كما فعل نظراؤهم في ماليزيا وتركيا والسينغال وبنغلادش وباكستان والهند وإندونيسيا ودول إسلامية اخرى إلى "محافظين ديمقراطيين" وان يساهموا في طي صفحة الصراع "الاسلامي/الحداثي" إلى تنافس حول برامج التقدم والازدهار والتنمية والحضارة في إطار ديمقراطي مدني تعددي متوافق عليه.