مظفر النواب شاعر القصيدتين

Photo

ماذا يمضي صنّاعُ الجمال إلى النسيانِ صامتين؟ لماذا يغدو شاعرُ الحنين والتمرد والبهجة، مجرّد شبحٍ يتكوّمُ على كرسيّ ذي عجلات، بقية من نار في رمقها الأخير، أو كائنا مهشما يستجمع آخر قدرته على الصراخ، متخيلا أن للموت مروءة يمكن استنهاضها، أو قلبا قابلا للانكسار، كي ينجز مهمته بلطف ودون إبطاء. ذلك هو مظفر النوّاب، جزء حميم من شبابي الشعريّ والشخصيّ، ومن فتوّة الكثيرين من أبناء جيلي. خلق رمزيته الخاصة، من جمالية فائقة ونضالية شاعت، بين العراقيين، شيوع الأسطورة. رأيت صورته على هذه الهيئة المفزعة مرتين، ولا أظن أنني قادر على تحمل هذا العذاب القاسي مرة أخرى.

لم يكن مظفر النوّاب، لمن لا يعرفه جيّدا، مجرّد شاعر معروف يكتب القصيدة بالعربية الفصحى، فهذا ما يعرفه الكثيرون. بل كان مجددا ذا تأثير كاسحٍ في فضاء شعريّ آخر. كنا في بداياتنا الشعرية، حين استيقظت بغداد كلها، ذات يوم، على هذا المجدد الجريء الجميل، والذي صارت قصيدته العامية المدهشة “للريـل وحمـد” تتردد عل شـفاه الكثيرين.

كان النوّاب يفعل ما فعله بدر شاكر السياب تماما، ولكن على الضفة الأخرى من اللغة: في فضاء القصيدة العامية العراقية، التي بلغت شيخوختها الحتمية أو كادت، ووجدت نفسها في عنق زجاجة خانقة. ولم يعد في مقدور شعرائها أن يطلوا على أفق أرحب من تلك المطحنة الحافلة بالتكرار وضجيج القوافي التي أرساها شعراؤها التقليديون الكبار. كانت تدور على ذاتها دون طائل جمالي أو دلالي كبير تقريبا. فلم يكن لها، مثلا، شيء من ترف الأغنية اللبنانية أو شغفها الطفوليّ بالطبيعة أو انفعالها اللذيذ بالحياة. وليس لها من غنج الأغنية المصرية وخفتها، أو معانيها المبتكرة ما يمكنها التباهي به.

كان ظهور النواب، في تلك البراري الشعرية المتفحمة، ظهور المبشر بالخلاص. فلم يكن منسوب المياه، قبله، كافيا لإنعاش المخيلة العامية، وكانت الصور الجاهزة والإيقاع الرتيب والمبالغات العاطفية، واللغة المتخشبة، قدرا مهيمنا على معظم ما تنتجه تلك المخيلة الموشكة على الهلاك.

وللمرة الأولى يأتي أرض القصيدة العامية الوعرة شاعر مثقف، مقبلا من حاضنة جمالية عالية: القصيدة الفصحى، الوعي الفني والموقف الاجتماعي والترف اللغوي. ولا ننسى هنا ما يتمتع به النواب من كاريزما مؤثرة، إذ كانت شخصيته الجذابة وإلقاؤه الشبيه بالنواح الجريح من العوامل الكبرى في شيوع قصيدته وتعميق أثرها في نفوس جمهوره الواسع.

لقد حرر الكتابة بالعامية من اقترانها بعامة الناس، من محدودي الثقافة، أو معدوميها أحيانا. وارتفع بها إلى مستويات إبداعية رفيعة لم يسبقه إليها أحد إلا في القليل النادر. جدد بنيتها الإيقاعية وأخرجها من ذلك المجرى الرتيب الضيق، إلى تموج إيقاعي بالغ الثراء والنفاسة، وجدد لغتها الشعرية فأدخلها في صميم الوجع الإنساني والوطني دون مباشرة أو تسطيح أو مبالغات.

كما حفلت قصيدته بالكثير من الجديد والمبتكر والمفاجئ من الدلالات والصور والانزياحات البلاغية، التي لا تستطيع النهوض بها إلا مخيلة فذة. وهكذا مهد هذا الشاعر لجيل من شعراء الحداثة في العامية العراقية. وكان لهذا المزاج الشعري الجديد، الذي وضع النواب حجارته الأولى وبنى عليه الجيل الشعري الذي تلاه، أثر عميق في التأسيس لكلام غنائي جديد، عبرت به الأغنية العراقية عن انهماكات الإنسان العراقي برشاقة وصدق باهرين.

وكان لمظفر النواب دور ريادي خطير في تحرير الشعرية العامية من ذكورية طاغية هيمنت على لغتها زمنا طويلا. كان الشاعر لا يجد حرجا في مخاطبة أنثاه بضمير المذكر. فجاء النواب ليندفع في هذا المجال إلى حدّه النقيض تماما. في زمن كان شاعر العاميّة والفصحى كلاهما، يأنفان من مخاطبة المرأة بضميرها المخصوص، ويتعاليان على مشاعرها ورغباتها الإنسانية المكبوتة، كتب النواب قصائده بلغة الأنثى المتيمة، أو المهجورة، أو العاتبة، أو المنتمية إلى الأرض بحرارة. وبذلك كانت لغته الشعرية دائما جسدية بامتياز، موّارة بحنين المرأة، واعترافها الغائم المشتعل بالرغبات والأسرار والتمرّد. فلماذا إذن يمضي صناع الجمال إلى النسيان صامتين؟


علي جعفر العلاق* شاعر من العراق مقيم في الإمارات

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات