يبدو أنّ هؤلاء الرافضين لحكوماتهم، ضحايا الدول الحديثة، لا يمدحون حزب الله ولا يبشّرون فعلا بمرجعياته التي طالما رفضوها رفضا قاطعا أكثر من رفضهم للسجون وسنوات القمع التي تعرّضوا لها، بيد إنّهم يمدحون لحظات من الانتصار حقّقها ذلك الحزب في مواجهة كيان استئصالي شرّد شعبا برمّته فأشفت غليلهم.
هي لحظات لم تحقّقها أحزابهم ولا دولهم ولا حكوماتهم التي دفعت بهم إلى دفع فواتير ثورة مغدورة رغم أنّهم لم يبخلوا عليها بصدورهم العارية، وما مساندة حزب الله الآن تتويجا لمحفل من الانتصارات أو محورا للمقاومة كان ذراعها الأيمن، إنّما هي مساندة تأتي كرفض لسياسة الحكومة الخارجية وقد كرّست عمالتها لجراثيم المستنقع الخليجيّ، وتأتي كنكاية في عجز الأحزاب وأطياف المعارضة على قلب المعادلة السياسية بالحفاظ على هيبة الدولة وسيادتها.
إن دولة تفتقر إلى ثوّارينتصرون (أبّولونيين)، سلطويين كانوا أم لا سلطويين، هي دولة لا يمكن أن تتوّج إلا بكونها بوّابة مفتوحة في وجه غزاة يهندسون سياستها الخارجية مقابل دمار شامل لشعبها وحفنة من الدولارات في أكفّ وكلاء لا يتورّعون عن الخيانة في كلّ مرّة، وهي دولة لا يمكنها أن تنتج سوى حطاما بشريّا يقذف بمواطنيها إمّا إلى العدمية أو إلى البحث عن أيّة مسلك مقاوميّ ضدّها، سواء كان هذا المسلك يساريا أو طائفيا أو قوميّا، وحزب الله اللبناني في حيّز هذه المعادلة التي صنّفته حزبا ارهابيا بمباركة الدولة التونسيّة يصبح الآن منارة وقبلة لكافّة الطيف الغاضب على حكومة هذه الدولة.
إزاء هذا الأمر، يجدر بنا القول إنّنا الآن نقف أمام غوغاء سياسيّة جديرة بإعدامها اعداما ارهابيّ السلوك، ذلك أن محصلة الآراء جميعها كانت نتيجة التموقع، وأزمتها أزمة تموضع، ورهانها لم يتجاوز شروط المعادلة التي أنتجت محفل الجنون العالميّ بعد مسارات ثوريّة تحالفت ضدّها بارونات رأس المال والدول الكولونيالية برمّتها حتّى تخصي نقاءها وإمكانية مولد جديد لشعوب عانت حقبا طويلة من القمع والتجويع.
قد تصطك أسنان البعض إزاء ما نلقيه هنا من أسطر تبدو فضفاضة المحتوى، أو إزاء هذا التجديف الهذيانيّ الذي من شأنه، تأويليّا، تغيير مصائر الكلمات، ولكن من الحتميّة انكار أنّ فشل الأغلبية وعجزها نتيجة ظروف عديدة هو ما قادها للبحث عن انتصاراتها الغائبة في انتصارات الآخر المسمّى بحزب الله. ثمّة إذن أزمة ذات، الذات بوصفها مجتمعا مدنيا أو حزبا أو كيانا بشريّا أو حتّى نسيجا فكريا وإيديولوجي، تلك التي تعلن تعاطفها مع كل حرب لم تقدر على خوضها أو خاضتها فكان انتصارها دون كيشوتيّا، وهي حرب كان من الأجدر أن تسمّى باسمها سيّما وإنها تعتقد أنّها الأقرب إلى أهدافها أكثر من حزب الله نفسه.
ثمّة في حزب الله جدواه الروحية/الميثيّة، المحيلة إلى القدم من القديم الأسطوريّ (ما قبل الاسلام) المتحرك ضمن ثنائيتي الموت والانبعاث، ممّا يولّد المناحة في انتظار عودة البطل من غيبته الطويلة.
بهذا الشكل يصبح نصر الله الحسن عائد بالحب والفرح والانتصارات من الجراح الحسينية والتمّوزية والأوزيريّة والدّموزية، بينما يلعب مدّاحيه الآن في ملعب المناحة العظمى التي تفصح عن عذاباتهم ولوعاتهم وضمائرهم المعذّبة بعد أن أفرغت أحزابهم وحكوماتهم ومنظماتهم من زعماء وأبطال ورموز لهم سحرهم ونبلهم. لقد كانت نساء بلاد الرافدين في احتفالاتهنّ بغياب الاله دموزي يمنحن أجسادهن لكل غريب كي يؤكدن قدرتهن على الإخصاب (دموزي بوصفه الحسين بن عليّ بعد أن تمّ تذويب أبعاده في النسيج الشيعي على اثر حقبة طويلة من تناسج السياقات الثقافية في تلك المنطقة) ولكن متى يعرف مدّاحي هذا العصر أن نصر الله لم يكن أبدا ذلك الاله كما لا يمكن أن يكون غريبا؟ ومتى يعرف مدّاحي هذا الحزب أنّه لن يعوّض غياب أبطالهم أو فقدانهم لرمزيتهم حين تشتعل معاركهم الوطنيّة ضدّ حكومتنا ونحن الذين نعرف أنّها حكومة تشتهي أكل لحوم الشهداء وهي نيّئة؟
إنّ مديحا سياسيا، أو تقاطعا فكريا ومقاوميّا إزاء لحظة كهذه، قد يبدو للبعض بالغ الأهمّية إلى درجة وصفه بالموقف المصيريّ، ولكنّ واقعنا أشدّ حلكة وسوادا وتعقيدا، يقتضي أوّلا هندسة واضحة وشمولية لدولتنا، من ترميم ضروريّ لذواتنا المهزومة، إلى ثورة ساخطة وعنيفة تغسل مساحيق أحزابنا وتنظيماتنا، وإلى حصاد اجتماعي واقتصادي وثقافي من شأنه أن يقول لنا من نحن.
هل سيلعننا أحدهم الآن بتعلّة أنّنا لا ندرك تمفصلات المقاومة؟
يا للعار، إن مقاومة مفرغة إلا من جوانبها الشكليّة لا يمكنها أن تظل سوى مسبحا للضفادع الكئيبة، ذلك أنّها لا تخون اللحظة والحدث، ولكنها تخون المستقبل، تخون المسلك الأنطولوجيّ للكائن الإنساني، تحرّر السائد من موته، وتكرّس خصي الانعتاق الشموليّ، وهي بلا شكّ لا تتحكم في مصيرها بقدر ما تظل بافلوفية الفعل إزاء صخب الكولونيالية في مفاصل شعوب يضربها طاعون اليأس، وهي أيضا بلا شكّ تصبح مجرّد ملهاة في يد عدوّها وهو يسلّي بها أزماته من حين إلى آخر.
إنّنا ورغم خمس سنوات من الموج المتلاطم كالطاعون إزاء مسارنا الثوري لم نسأل عن ذواتنا ولو سؤالا واحدا، بل كنّا طيلة هذه الحقبة نبحث عن وجودنا في وجود الآخرين، وكأنّه ما من خصوصية لنا غير المديح أو الهجاء، بيد أنّ جوهرنا لا ينبت إلا من خلال نحت عوالمنا ذاتها، حينها لا تكون ثمّة حكومات مكرهة نتيجة خياناتها وضعفها على موقف يفرض عليها من قبل دول أخرى، وحينها أيضا نتحرر من الكلام المزبد والغاضب حتّى تتسنّى لنا امكانية الفعل الحقيقي في مساندة قوى التحرّر في بلدان الجوار، وحينها لا يكتب أحد فينا كلام كهذا النصّ الانشائي والرديء الذي نكتبه ونحن بصدد الجلوس في مقهى يعجّ برائحة الدخان ويتثاءب فيه البشر حدّ ابتلاعهم للذّباب.