حقّقت السوريالية، بوصفها حركة في اتجاه المطلق والمجهول، منعطفا غريبا في النّظر إلى ماهية الأشياء ومدلولاتها. فهي قوّة تخريبية تفكّك نظام الواقع، وسعي مستمرّ إلى البحث عن الممكنات المستحيلة. وهي بعبارة أخرى دعوة ملحّة إلى حياة غائبة ومفقودة، ومقاضاة لهذا العالم المادّي، وتمرّد بلغ به حدّ محاكمة قانون الخلق في حدّ ذاته. في المقابل كانت هناك إشادة بالبراءة الإنسانية، التي لم تتمكّن من التجلّي أو التمظهر، ولن يمكنها ذلك إلا بقلب هذا العالم، وتغيير نظام الحياة. من هنا نفهم نزوع السورياليين إلى الاتحاد بالطبيعة، وإعلائهم من شأن أي فعل قادر على تقويض عالم فقد معناه وشرفه الانسانيّ كالجريمة وتمجيد اللاعقلاني. فالحرّية المطلقة والعفوية والبدائية والوحشية والفوضوية، هي وحدها من يسعى إليها هؤلاء. ومن هنا نفهم إعجابهم بالماركيز ساد الذي لا يخضع إلا إلى قانون من شهوة لا تنضب، هذا الأمر المتمثل في رفضهم حضارة فقدت براءتها واتحادهم بما هو طبيعي ولا عقلاني كان قد أوصلهم إلى الهاوية. الهاوية التي توقفهم على شفا العدمية واستحالة تحقق الحلم والاصطلام بنار التمرد الفوضوي. إلا أنّهم ولدحض المتناقضات وتفعيل مبدأ الوحدة، كانوا قد وجدوا في الحب الخلاص، الذي يقودهم في اتجاه براءة الإنسان وعذرية الطبيعة في شكلها الأوّل وصورة الخلق في لحظة السّديم.
لم تكن نظرتهم إليه مماثلة لنظرة الرومنطقيين أو مشفوعة بمبدأ الالتزام الأخلاقي، الذي يسنّه المجتمع. على العكس، فقد استندت على مبدأ الأناركيّة الخاصّ بالشهوات. إنّ البحث عن المقدّس، عن الألوهة الكائنة في المجاهيل، وفي ما وراء الواقع، وعن الطفولة الأولى للإنسان، يعدّ نوعا من الإصطلام والوجد والرّعب، حيث تكمن الإقامة في عالم يحجب تلك العوالم.
تصبح المرأة بهذا الشكل، ممجّدة وكاهنة وقدّيسة، كائنا من خيمياء وسحر وجنون. ويصبح الحبّ نوعا من التمسّك بالخطيئة والإثم، لا وصول إلى الرّوح إلّا عبر الجسد. يغرق السوريالي نفسه في الشّهوة والرّغبة، ويعلي من شبقه المتزايد، يقينا منه أنّ في تدنيسه للمقدّس سيصل ايروسيا إلى جوهره خارج سطحيّة الاعتراضات اليوميّة، إذ هنا فقط، يتمّ الوصول إلى المطلق، تنتفي التناقضات، تتوحّد الأرواح في التقاء الجسد بالجسد، ويتحقّق الطّموح بالوصول إلى الإنسان المتكامل، اللّامتموقع كونيا. المرأة هي طريق السوريالي، وهي وطنه ومنطلق فوضاه وطاقته التي بها يرتحل إلى جوهره وكنهه. فهي المغويّة والطفل والبراءة والسحر وخيمة عالم أصيل. لذلك مجّدت حدّ العبادة، معها يبطل الإحساس بعدمية الحياة، وتأخذ الأشياء وتيرة أخرى، كأن ترتدّ إلى لحظة بكارتها الأولى. يتجدّد العالم بأفول قشرته الخارجية، وتحضر المرأة في مملكة الشهوة، ليكون الموت.
الفناء هنا، حياة جديدة، أي أن يفرغ السوريالي نفسه من الكون، أن يتجرّد حدّ الفراغ. من هذا المنطلق شدّد السورياليون على ضرورة تحرير العلاقات الجنسية ورأوا أنّه لا يمكن الفصل بين الجنس والحبّ، فهما متكاملان من حيث الشهوة الجسدية والشهوة الرّوحية. الممارسة الجنسية من شأنها أن تشكّل مسارا يتصاعد نحو إقامة الحب المتكامل والكامل والمنتهي. وهي شهوة تبيح التجلّي للمطلق، إذ ينشأ الفناء في الآخر، تفقد الذات ذاتها لتجدها في الآخر. هناك تموضع في العوالم المفقودة وانغراس كلّي في مبدأ الوحدة. هنا نكتشف أهمية الطّاقة الإيروسية، باعتبارها غريزة للحبّ والشّهوة، بالنسبة إلى السورياليين الذين نادوا بثورة جنسية أثارت استنكار العديد من الماركسيين ممّا جعل من "بروتون" يسخر من اعتقادهم وعدم جرأتهم على البوح بالأسس الثورية للماركسية، والتي من أهدافها تحرير العلاقات الجنسية من سلطة الأطر المؤسّساتية. تنكر الماركسية في جانبها السّلطوي-التنظيمي هذا الأمر وهي لا تتقاطع مع هذا المبدأ إلاّ بعد لحظة تحقّقها نهائيا في مرحلة انتفاء الدّولة. لذلك لا يمكن اعتبار "بروتون" ماركسيا في جانبه السياسي، وإنّما من الممكن أن يتّهم بالفوضوية التي تسعى إلى تخريب كلّ الأجهزة السلطوية. غير أنّ الأمر ليس بهذا الحدّ من التطرّف، فالثورة وإن كانت قائمة على أسس التحرّر الجنسي بالنسبة إليه، فإنّها تمرّ حتما عبر الثورة الاجتماعية. وهنا يكمن الفصل والتقاطع بين الماركسية والسوريالية.
خارج إطار النّضال السّياسي والحلم والجنون والكتابة، وجد السوريالي نفسه وحقيقته في الحبّ. ووجد جوهر حياته، وانكشف له المعنى. كانت "إلزا" ملهمة الشاعر الرّوسي ماياكوفسكي، آلهة بالنسبة إلى لويس أراغون، مثّلت له عشقا مجنونا ارتفع إلى درجة القداسة والعبادة. معها كان يكتب قصائده وكأنّه يحيا خارج الأطر المتناقضة. مثّلت له روح المطلق، وانتفت المتنافرات، وانصهر الوجود في بعد واحد. تحضر في "عيون الزا" نار بروميثيوس وأضواء السّماء الخالدة وينتفي الإحساس بالزّمن أمام التأمّل، الذي قاد أراغون وأدخله مملكة التّيه في زرقة عيون "الزا"، وأوصله إلى إيجاد ذاته، عبر الإقامة في فلك جنّة مفقودة. مع "بروتون" ، كان الحبّ مقترنا بالسّحر والصّدفة والانخطاف، وكان الجمال في نظره لا يتحقّق إلا بوصفه رمحا من التشنّج، لقد مثّلت له "نادجا" صورة أخرى عن الوجود وحملته معها لإضاءة المجهول والمرعب والغامض. تكشف لنا هذه الرواية - نادجا- عن عمق المرأة واختزالها لطاقات ضائعة من عالم مفقود، كلّه ضرب من الضّياع والتّيه، إذ تنفتح الرّواية بسؤال يطرحه "بروتون" على نفسه "من أنا؟"، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ عن عمق حيرته وضياعه وتلاشيه. ثمّ يلتقي "نادجا" ليسألها "من أنت؟"، فتجيبه قائلة: "أنا الرّوح الهائمة." ويدهش "بروتون" أمام الإجابة. تختفي "نادجا" ثمّ تعود للظّهور بشكل مفاجئ وغير متوقّع؛ شبيهة بروح تنكشف، تضيء، تحدث إشارة وتختفي. هي نداء المطلق بالنّسبة إلى "بروتون" وحرارة البدء لم يتشوّه بعد.