كان ديكارت وباسكال وروسو وديدرو وفولتير وبرغسون وسارتر وفوكو ودريدا ودولوز والعشرات غيرهم حاضرين معي وفي روحي وأنا أتجول في المدينة.
يوجد في كل وعي بالهوية جانب غير موعى به غير أنه فاعل، لأنه سرعان ما يُستدعى إلى ساحة الفعل دون أن يدري صاحبه، أو أنه يظهر دون إرادة أو قصد. والتربية واحدة من أهم العوامل في خلق هوية كهذه.
وهوية المبدع تنطوي على جانب من الهوية يصبح مع الأيام في حكم الهوية العفوية مع أنه ثمرة من ثمرات سيرته الذاتية في عالم الإبداع. فلقد ربى نفسه على صحبة الراحلين من المبدعين وآثارهم، حتى صاروا عالم هويته المتَكَون، وغدت درجة القرابة معهم بمعزل عن الاختلاف قوية إلى الحد الذي يمنح المبدع شعور الإنتماء إلى عالمهم. وتأسيسا على ذلك فإن للمبدع هوية مختلفة عن هويات الآخرين، أو قل إن شعوره بالانتماء أكثر غنى وعمقا واتساعا.
حتى الهوية الوطنية لا تنفصل عند المبدع عن انتمائه لأصحاب الخلق الفني والأدبي والفلسفي، فتكون هُوية الشاعر الوطنية والقومية مرت بالانتساب إلى نخبة الشعراء الذين أسسوا لذوقه الشعري وأسهموا في انطلاقته الإبداعية. فأي شاعر ذاك لا يجد هويته في النابغة وعمر بن أبي ربيعة وأبي الطيب والمعري والبوصري وشوقي وبدوي الجبل وعمر أبي ريشة وهكذا. وإذا كان الشاعر ممن يطلعون على آداب الشعوب الأخرى أو بعضها عن طريق الترجمة أو بحكم معرفته للغة أجنبية فإن هويته تصبح أكثر ثراء ويتكون لديه شعور أرحب بالانتماء. وقس على ذلك هوية الروائي وهوية الفنان التشكيلي.
ويظهر وضوح الفكرة التي نحاول التدليل عليها أكثر ما يظهر في هوية المبدع الفكرية – الفلسفية. وآية ذلك أن المبدع الفلسفي أو مبدع الأفكار لديه شعور أقوى بالانتماء إلى عالمه بسبب ما يولده هذا الانتماء من نمط سلوك وقرابة روحية شديدة. فهوية الجابري مثلا لا تنفصل إطلاقا عن ابن رشد وابن خلدون وابن حزم والشاطبي وماركس وغرامشي وفوكو. وهؤلاء حاضرون بوصفهم مكونات هوية الجابري، فضلا عن آخرين من الشرق والغرب.
والحق أن تجربة الرحلة التي قمت بها إلى باريس ولدت لدي إحساسا شديدا بمعنى الهوية الفكرية.
لقد كان ديكارت وباسكال وروسو وديدرو وفولتير وبرغسون وسارتر وفوكو ودريدا ودولوز والعشرات غيرهم حاضرين معي وفي روحي وأنا أتجول في المدينة. كنت أشعر بخطى جان هوبليت وأندريه لالاند في أروقة السوربون، كان بودّي أن أزور البيوت التي سكن فيها الفيلسوفان الروسيان المهاجران كوجييف وبردياييف.
المدينة التي أزورها للمرة الأولى لم أشعر بالغربة فيها، بل على العكس شعرت بالانتماء إلى فضائها الفلسفي والفني. كنت وأنا أشرب القهوة في المقهى الذي كان يرتاده سارتر أشعر بوجوده، وأكلت طبق همنغواي في المطعم الأحب إلى أرنست همنغواي، و أخذت صورة مع روسو، وأخرى مع أوغست كونت. وما إن رأيت برج الباستيل الذي بني من أحجار سجن الباستيل حتى انتابني شعور بالفرح، وتساءلت في سري كم من الأبراج سيبنيها السوري في الساحات من أحجار سجون الطغمة الحاكمة.