أنهيت اليوم، الخامس عشر من أفريل 2016، قراءة كتاب حصاد الغياب لصاحبه السيد عبد الحميد الجلاصي، اقتنيته منذ فترة وقرأته بكثير من التركيز في فترات متقطعة. صاحبني لأيام عدة في رحلة القطار شبه اليومية في غدوي ورواحي من العمل. كنت أتحيّن فرصة مكان شاغر لأجلس إليه مستغرقا في قراءته حتى كدت في أكثر من مرة أن أتجاوز المحطة التي من المفروض أنزل فيها. شهد التركيز فتورا في المدة الأخيرة فقد تشتت الذهن واضطرب بعد المرض الذي ألم فجأة برفيقة الدرب الطويل وألزمها الفراش في المستشفى، نسأل الله لها تمام الشفاء. ما سأذكره هنا لا يتعدى أن يكون ملاحظات سريعة في شكل برقيات، توزعت بين الإعجاب والتعجب و السؤال والتساؤل.
وجدت العنوان غير معبر بشكل كامل عن هذه الملحمة، ملحمة عائلة الجلاصي في صورتها الأشمل ولكن من المؤكد أن الكاتب قد اختار هذا العنوان لاعتبارات خاصة. الكتاب يشترك مع غيره من كتابات أدب السجون في الحديث عن معاناة السجين وعن السياسة السجنية التي ينتهجها الاستبداد ضد أصحاب الرأي، تلك السياسة القائمة على فكرة التحطيم الممنهج للذات الإنسانية ولكنه ينفرد بالتركيز على استراتيجية السجين المقاوم الذي يرفض تقييد روحه بالرغم من عذابات الجسد فيعلو بها ويرفع السقف عاليا حتى يصبح السجان ضعيفا بقوته والسجين قويا بضعفه.
ولكن قبل الخوض في مضامين الكتاب أود أن أتوقف عند بعض الجزئيات التي شدتني بمعانيها العميقة. مجدة التلميذ المشاغب (ص. 89) كما وصفه شقيقه لم يكن بالفعل شخصا عاديا. مجدة كان مغامرا، يرفض الاستسلام ويكره شيئا اسمه الانحناء للعاصفة، كان عزيزا في سجنه السياسي وعزيزا في سجنه الاجتماعي. تحدى كل المعوقات ليثبت ذاته العلمية وذاته الاجتماعية، صورة حيّة عن الإنسان المكابد، الكادح إلى ربّه كدحا فملاقيه. سأكون سعيدا لو تتوفر لي فرصة اللقاء به والتعرف عليه. كم نحتاج إلى هذا النوع من الشخصيات المعاندة في زمن صار فيه الهوان مستلذا ومستطابا.
" المعمّرة "، (ص 250) كلمة مشحونة بالمعاني، قفزت بي فجأة إلى أيام طفولتي وإن كنت عرفت قبلها "بيت الشّعر" و " الكيب" من هناك أتينا متحدين الصعاب. عند المعمرة وقفت بإجلال أمام أم الذكور الأربعة والإناث الثلاث وجميعهم رجال بالمعنى القيمي للكلمة، التي تجسدّت فيها كل معاني العزة، تبكي في خفائها حرمانها من أبنائها الأربعة ولكن في علنها صامدة صمود الرجال وأكثر، لم تُفرح الطامعين المتربصين بكلمة فيها نقد أو انتقاد للطريق التي اختاروها. هذه التفصيلات التي شدتني يمكن أن نجد أمثالها عند كل آل الجلاصي وغيرهم من الأبطال الذين صمدوا ولكني أفردتها بالذكر لتكون مثالا عن ثقافة التمرد ورفض الخضوع لسياسة الإذلال.عائلة ومثيلاتها كثيرات، "تقيم الأفراح" لأن ابنها الذي كان ينتظر الإعدام نال حكما بالمؤبد، عائلة جديرة بكل احترام
عبدالحميد الكاتب، بعد أن أكدت له الصابرة المصابرة منية ذات يوم عصيب أن قاعدة كل الأقواس تُغلق لا تعني عندها شيئا صار يفتح الأقواس ولا يبالي، في الكتاب الكثير من الاستطراد الذي يُتعب القارئ الذي لم يتعود على هذا الترواح بين الماضي والحاضر. الإنسان بطبعه يتحاشى المرور بالمواطن التي استضعف فيه ولكن عبدالحميد الذي اختار أن يكون قويا في ضعفه، راى الانتصار في كل مكان مر به فلا يرى حرجا في المرور بسجن الهوارب (ص.117) الذي كان الأسوء وكل السجون سئية، ليقتفي أثر منية ومريم الصغيرة التي ماثلت بين الأسلاك وأباها فكلما رأت أسلاكا شائكة تصورت أباها وراءها، تعسا للظلمة الذين قتلوا الطفولة وقتلوا الأمومة وقتلوا الأبوة. ولكن عبدالحميد الصامد عليه أن يعيد قراءة هذه الجملة التي عاشها واقعا قبل أن تخطها يمينه " إن أعطيتهم بعض ما يريدون الآن ستسقط حبات أخرى من المسبحة" (ص.121) هذه الجملة صالحة لكل الأحوال، في حالة الشدة كما في حالة الرخاء.
تعجبت من عبدالحميد وهو المناضل المتمرس كيف يقع فريسة سهلة لعسس السلطة حين قبضوا عليه لأول مرة، يجد أبواب دار صحبه مشرعة فيتقدم إليهم يمشي على قدميه وقد أعياهم بحثا.
تساءلت وأرجو أن أكون مخطئا وأرجو أن يكون خطأ الكاتب عن حسن نية. ما بال الكاتب حينما يذكر بعضا من رفاقه يغدق عليهم بسخاء أوصاف التمجيد والتكريم وآخرون يذكر أسماءهم على عجل ولا يزيد، كأني بسحب اللحظة تلقي بضلالها على التاريخ
في كل مرة أنتهي فيها من قراءة كتاب يروي محنة السجن ينتصب أمامي هذا السؤال المرهق: لقد سطرتم فرادى ملحمة رائعة في الصمود، تحت سياط العذاب والزنزانات الخانقة رفضتم الخضوع لكل أنواع الإخضاع وعندما صرتم جمعا وفي أجواء الحرية وفي المكاتب الفارهة ضعفت عزيمتكم وارتعشت أياديكم ولم يتبين عندكم الخيط الأبيض من الأسود وأنتم في وضح النهار وقد كان بيّنا لكم في الظلام الحالك.
ملاحظة أخيرة وقد أطلت وما كان في ظني أن أطيل، تتعلق بلغة الكتاب التي وجدتها راقية نسبيا ومعبّرة جدا، تعكس إدمان الكاتب على مطالعة الكتب الأدبية بأكثر من لسان. بعض الأخطاء النادرة التي لا يخلو منها مؤلف من المؤلفات.
تلك هي ملاحظاتي السريعة على كتاب يجب أن يُقرأ ليعرف الناس ماذا ينتظرهم من المستبدين حين ينتصرون للحرية في انتظار أن تكشف الصدور الأخرى المكلومة عن خباياها.
يصعب علي أن أنهي دون أن أحيي كل الشرفاء وأخص بالذكر منهم المحامين الذين شرفوا المهنة وشرفوا تونس حين رفضوا الانتظام المهين واختاروا الطريق الأصعب.