عودة الدولة إلى القمع في تونس

Photo

الإناء الاجتماعي في تونس يغلي كالمرجل، فالسلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة هي المؤتمنة على احترام الدستور وعلى تطبيقه وعلى أمن الناس. ولكن ما حدث في المدة الأخيرة خطير بسبب تهاون المؤتمنين على الدستور في القيام بواجبهم، وغضهم الطرف عن الاعتداءات البوليسية على المحتجين، وتغاضيهم عن القمع العنيف للمسيرات والمظاهرات السلمية واعتقال المواطنين ومحاكمتهم بسبب مشاركتهم في المظاهرات للمطالبة بحقوقهم التي كفلها لهم الدستور.

فالدولة ورؤوس السلطة التنفيذية يحرمون المواطنين من حقوقهم ويمنعونهم من حق المطالبة بهذه الحقوق والدفاع عنها. ولا يوجد اسم آخر لهذا السلوك إلا القمع والاستبداد. بل الملاحظ أن هناك نية واضحة لتجريم الحراك الاجتماعي في تونس.

ورغم أن الفصل السادس والثلاثين من الباب الثاني “باب الحقوق والحريات” ينص على أن “الحق النقابي بما في ذلك حق الإضراب مضمون”، فقد وقع قمع المعتصمين في شركة الغاز والنفط بيتروفاك في جزيرة قرقنة. وتم اعتقال بعض المعتصمين بعد إرسال تعزيزات أمنية كبيرة إلى الجهة. النتيجة كانت بيان إدانة شديد اللهجة من الاتحاد العام التونسي للشغل، وبيان مساندة صريحة من الجبهة الشعبية، وإضراب عام شل الحياة في الجزيرة.

ومع أن الفصل السابع والثلاثين من الدستور كان صريحا في نصه على أن “حرية الاجتماع والتظاهر السلميين مضمونة”، فقد اعتدت قوات الأمن بشدة على مسيرة احتجاج سلمية لمناضلي الاتحاد العام لطلبة تونس المفروزين أمنيا واتحاد أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل مصحوبين بنواب من الجبهة الشعبية في ذكرى عيد الشهداء يوم 9 أبريل للمطالبة بحقهم في التشغيل. وتمّ اعتقال مجموعة منهم ومحاكمتهم بشكل تعسفي.

والخطير أنّه تمّ تهديد نائب الشعب عن الجبهة الشعبية جيلاني الهمامي من قبل المدير العام للأمن بالسجن. وتعرض النائب عمار عمروسية للاعتداء بالضرب من قبل قوات الشرطة. وهذان الاعتداءان لم يثيرا شيئا في نواب الأغلبية، فلم يصدر أي بيان إدانة من قبل كتل النهضة ونداء تونس والحرة. وهو موقف غريب يدل على مساندة عمياء للسلطة التنفيذية، في الوقت الذي كان يفترض أن تسهر هذه الكتل، بحكم مسؤوليتها الشعبية والأخلاقية، على احترام الدستور وعلى سلامة كل النواب.

وفي هذا الأسلوب القمعي خرق صارخ للباب الثاني من الدستور التونسي الذي ينصّ في الفصل الثالث والعشرين على أنّ “الدولة تحمي كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد وتمنع التعذيب المعنوي والمادي”، هذا إضافة إلى الحصانة التي يتمتع بها نائب الشعب والتي نصّ عليها الفصل الثامن والستون من الباب الثالث.

والغريب أن الاعتداء الذي تعرض له النائب عمار عمروسية والتهديد الذي تلقاه النائب جيلاني الهمامي لم يثيرا حفيظة رئيس الجمهورية المؤتمن على الدستور ولا رئيس الحكومة الموكول له تنفيذ القانون ولا رئيس مجلس نواب الشعب الذي يعدّ النائبان من منظوريه. فلكأنهم جميعا يستطيبون الاعتداء على نواب المعارضة.

وسبب قمع المسيرة هو تراجع الحكومة عن اتفاق تسوية ملفات قدماء الاتحاد العام لطلبة تونس المفروزين أمنيا على خلفية أنشطتهم النقابية والسياسية في الجامعة زمن الاستبداد. فلقد وقع إيقاف جلسات الاستماع إلى أصحاب الملفات التي كانت تشرف عليها لجنة مكونة من الحكومة ونواب من البرلمان وممثلين عن الاتحاد العام لطلبة تونس وآخرين عن اتحاد أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل.

وتجري محاولة مريبة لإعادة الملف إلى نقطة الصفر بالتشكيك أصلا في شرعية هذا الملف وفي جدوى تسويته رغم أن الملفات والمستندات موجودة وأرشيف الاتحاد العام لطلبة تونس متوفر في الأرشيف الوطني وأرشيف وزارة الداخلية موجود. وتمّ التأكد من ملفاتهم من قبل الحكومة. ودعم مجلس نواب الشعب هذا الملف وكلف لجنة برلمانية للمشاركة في جلسات الاستماع.

ولا بد من التذكير بأن الحكومة لم تعترف بهذه القضية العادلة إلا بعد نضالات مريرة من المفروزين أمنيا وخوضهم إضرابات جماعية وحشية عن الطعام. وما كانوا ليفعلوا لو لم يكونوا أصحاب حق. كما وجبت الإشارة إلى أن أغلبهم تجاوز سن الأربعين ولم يعد لهم الحق في المشاركة في مناظرات الانتداب بالوظيفة العمومية.

كما وقعت مخالفة الفصل الحادي والعشرين من الباب الثاني المذكور أعلاه الذي ينص على أن “تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم”. فأي كرامة لمواطنين تونسيين معطلين عن العمل قادمين من سيدي بوزيد والقصرين تقمعهم الحكومة وتعترض مسيرتهم وتمنعها من الوصول إلى قصر الحكومة في القصبة، وهو ما أجبرهم على التوقف في المروج جنوب العاصمة مضطرين للاعتصام في حديقة عمومية لأزيد من شهرين ونصف الشهر دون أن تهتمّ الحكومة بأمرهم؟

هذا التصعيد الاجتماعي سببه الرئيسي انسداد الآفاق أمام الائتلاف الحاكم وعجزه عن إدارة الملفات والقضايا الكبرى في تونس. من ذلك مشكلة عجز الصناديق الاجتماعية التي تزيد استفحالا، والتجاء الحكومة إلى اقتراح حل قديم هو الترفيع في سنّ التقاعد، مما أشعل أزمة كبيرة بينها وبين الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يرفض المساس بحق المتقاعدين وجراياتهم.

ومن ذلك أيضا عجز الحكومة عن إدارة معضلة التشغيل وشللها الكامل أمام رفض الأطباء والمحامين تطبيق قانون الجباية. وهو ما يعطل تنفيذ شعار مركزي من شعارات أحزاب الائتلاف الحاكم هو شعار العـدالة الجبائية ويفرغه من محتواه. فالدولة مازالت تعول على الاقتراض والمساعدات والهبات وتعجز عن استخلاص حقها من المتهربين من دفع مساهماتهم الجبائية.

وفي هذا الظرف الاجتماعي المشحون المتسم بالقمع الشديد للحراك الاجتماعي تتم مناقشة موضوع خطير في مجلس نواب الشعب هو القانون الأساسي للبنك المركزي لا سيما نقطة الاستقلالية. فلكأن الغليان الاجتماعي مفتعل قصد التشويش على الأطراف الاجتماعية، لا سيما الاتحاد العام التونسي للشغل، وتشتيت جهودها النضالية لتمرير هذا القانون.

لكن الأكيد أن الحكومة ورئاسة الجمهورية والأغلبية النيابية واقعة في أزمة جراء الضغط المسلط عليها من قبل الدوائر المالية والاقتصادية الخارجية بسبب الحجم الكبير للوظيفة العمومية أولا، وذاك المتأتي من ضرورة الالتزام بالاتفاقيات المبرمة مع شركائها الاجتماعيين في الداخل ثانيا، والثالث القادم من حاجتها إلى الانتداب في الوظيفة العمومية لا سيما في قطاع التربية والتعليم وتأخرها في ذلك تأخرا كبيرا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات