بعد انتهاء الحرب الثانية، وهزيمة دول المحور من النازيين والفاشستيين، حَمَلة قيم التمييز القومي الاشتراكي وقيم التميز الديني في بيت الثقافة الغربية المسيحية، وانتصار الحليفين الأساسيين في تلك الحرب، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فقد كان من الطبيعي أن يفترقا بعد أن جمعتهما مصالحهما ضد عدويهما في تلك الحرب، وأن تبدأ الحرب الباردة بينهما من اليونان وتركيا، وشبه الجزيرة الكورية، وفلسطين.
ومن المعلوم أن تركيا ظلت على الحياد طيلة الحرب الثانية، إلا أنها أعلنت الحرب على دول المحور، قبيل انتهائها عام 1945، كإشارة منها بالتزامها باستراتيجية الدول الحليفة.
ويبدو لي ان العقيدة الأمريكية التي أعلنها الرئيس ترومان في آذار 1947 هي التي حفزت تركيا على إرسال قواتها لدعم القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية، بعد أن تعرضت لهجوم من قوات الشمال المدعومة من الصين الشعبية والاتحاد السوفييتي في حزيران عام 1950.
واستمرت تركيا في تعميق علاقاتها مع الغرب، فأصبحت في عام 1952 عضوا كاملا في حلف شمال الأطلسي وشريكا في كل استراتيجياته، كما ووقعت مع دول أوربا الغربية تحالفات وعلاقات اقتصادية وعسكرية.
وحلف بغداد، الذي قادته بريطانيا وانضمت إليه الولايات المتحدة كعضو مراقب، وضم العراق وتركيا وإيران وباكستان، كان يطمح لضم مصر وسوريا وكافة دول الجامعة العربية، بعد أن وقـَّع مجلسها على ميثاق الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي في 13 نيسان/أبريل 1950، والذي كانت حكومة الملك فاروق (ملك مصر والسودان) قد طرحته منذ تشرين أول/أكتوبر 1949.
وتوثيقي للأحلاف التي أرادها قادة دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة، للأوطان العربية والإسلامية، ليس إلا لإثبات أن قادة هذه الأوطان، الذين جاءوا بانقلابات عسكرية، بعد الاستقلال وتأسيس جامعة الدول العربية، كانوا بأشد الحاجة لخبرات آبائهم وأجدادهم من رجال تيار النهضة العربية المتراكمة خلال قرن ونصف، إلا أنهم اتهموهم بالخيانة الوطنية والعمالة للإمبريالية والاستعمار والصهيونية، وعزلوهم بالقوة العسكرية.
وثورات الربيع العربي، التي انطلقت في 17 كانون أول/ديسمبر عام 2010 من حادثة البوعزيزي في جمهورية تونس الخضراء، كشفت أن قادة الانقلابات العسكرية، في كل أوطان الأمة العربية، كانوا الأكثر ضررا على مصالح أوطانهم ومصالح أمتهم من وجود الدولة الإسرائيلية ذاتها.. لأن الانتصار النظري للحتمية التاريخية للماركسية اللينينية، أغرى العقول العزباء للانقلابين العسكر، فأسقطوا الأحلاف العسكرية الغربية، وانضموا حلفاء للاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، وتشبثوا بالقيم الماركسية في الصراع الطبقي والتمييز الطبقي الاجتماعي وديكتاتورية الطبقة العاملة، وحتمية انتصارها على حملة قيم الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة.
ولا بأس من تكرار ملاحظتي التالية: وهي أن فلاديمير إيليتش لينين، لم يتنازل عن البلدان الإسلامية المحتلة في أسيا الوسطى منذ القرن السابع عشر وكلها من أصول تركية، بل ضمها جمهوريات إسلامية سوفيتية إلى امبراطوريته الشيوعية، وذلك ليس إلا للاحتفاظ بكامل أراضي الامبراطورية الروسية المتعددة الأقوام واللغات والأديان والمذاهب، تحت السيطرة الماركسية اللينينية. وهذا يعني أن لينين أقام إمبراطورية الحزب الماركسي اللينيني، وحل هو في قيادة الحزب الشيوعي الامبراطوري السوفيتي محل القيصر، وحلت اللجنة المركزية للحزب الامبراطوري الشيوعي السوفيتي محل طبقة الأمراء والإقطاعيين. وأما المنظرون الشيوعيون في الامبراطورية السوفيتية، فقد حلوا محل رجال الدين في نظام القيصر.
بمعنى أن قائد الثورة البلشفية فلاديمير إيليتش لينين قلب النظام القيصري رأسا على عقب، حتى يستطيع تثبيت ممتلكات الامبراطورية الروسية، إرثا للإمبراطورية الماركسية اللينينية السوفيتية العالمية.
وأما نداء لينين للمسلمين الذي وجهه في 24 تشرين ثاني/نوفمبر 1917، فقد بينت الأيام عقم هذا النداء، وأكثر من ذلك، فقد بين واقع مجتمعات الدول الإسلامية في أسيا الوسطى، بعد أن نالت حريتها ـ تلقائيا ـ بفضل الولايات المتحدة الأمريكية، كنتيجة حتمية لانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990، التناقض المطلق مع ما جاء في نداء البولشفيكي فلاديمير لينين، الذي وجهه للشعوب الإسلامية في 24 تشرين ثاني/نوفمبر 1917.
وقد بينت الأيام، أيضا، أن الماركسية اللينينية الروسية السوفيتية كانت أفظع وأبشع استعمار استيطاني عرفته البشرية في كل تاريخها، إذ أن المستوطنين الروس أصبحوا يشكلون اليوم ثلث سكان الدول الإسلاميةّّّ.. نعم : إن الماركسية اللينينية كانت أفظع استعمار استيطاني عرفته البشرية في كل تاريخها الحديث.
وفعلا استطاع الاتحاد السوفيتي السابق، أن يضم خلال الحرب الباردة، جل أوطاننا العربية حلفاء لإمبراطورتيه السوفيتية الماركسية اللينينية، من عراق عبد الكريم قاسم، إلى مصر عبد الناصر وورثة نظامه، إلى سودان جعفر النميري، إلى سوريا حافظ الأسد وورثة نظامه، فليبيا معمر القذافي، فجزائر هواري بومدين، وصومال سياد بري، وجنوب يمن على ناصر محمد... لينهار معظم هذه الأوطان العربية، بعد عقدين من الزمن على سقوط الاتحاد السوفييتي، لأن سياسييها الذين تربوا على الحتمية التاريخية لانتصار الماركسية اللينينية، لم يدركوا ما أدركه سياسيو دول حلف وارسو من المعاني الإنسانية السامية لثورات ربيع أوطانهم، التي قاموا بها مباشرة، بعد أن شخصوا بداية انهيار الاتحاد السوفيتي.
وهكذا تأخرت ثورات الربيع العربي 20 عاما عن ثورات ربيع دول حلف وارسو. ومسؤولية هذا التأخير تقع على عاتق السياسيين وحدهم، وتحديدا كافة الأحزاب القومية الاشتراكية العربية والأحزاب الشيوعية الأممية، والتي ما زالت جميعها مع موسكو الاتحادية، رغم عودتها إلى نظامها الامبراطوري الكنسي، ورغم أن بوتين أعاد الصراع في الإقليم العربي الإسلامي وفي العالم وفي سوريا خاصة إلى حرب باردة جديدة.
ومن منطق وطبيعية أحداث الحرب الباردة، كان من المفروض أن تنهار كل الديكتاتوريات العسكرية العربية مع انهيار السوفييتي عام 1990... ولكن قادة وسياسيي الدول العربية، فراعنة القرن العشرين، ظلوا تائهين عشرين عاما ليجابهوا ثورات ربيع أوطانهم بالحديد والنار، بدلا من أن يتصالحوا مع شعوبهم.
وفي كل الأحوال، لا شعوب دول حلف وارسو، ولا شعوب الدول العربية الصديقة للاتحاد السوفيتي، كانت بقادرة على القيام بثورات ربيعها لولا انهيار الاتحاد السوفيتي.. حتى أنني استنتجت من قراءاتي للإحداث السياسية في أوطان الأمة العربية، أن الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب الأوروبية، كانت تريد أن تتعامل مع دول الجامعة العربية بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع دول السوق الأوروبية المشتركة، منذ بدية الحرب الباردة والوصول بدول الجماعة العربية إلى ما وصلت إليه دول السوق الأوروبية من اتحاد اقتصادي وسياسي وعسكري.
لكن قادة الانقلابات العسكرية في أوطان قلب أمة العرب ـ مصر وسوريا والعراق ـ اختاروا إقامة الأنظمة الشمولية، وتفكيك كل ارتباط لدولهم مع أنظمة المواطنة، والتعددية الديمقراطية الحرة في الفكر والدين والسياسية، وفي احترام حقوق الإنسان؛ في بيت الثقافة الغربية المسيحية، وذلك لخدمة مصالحهم في الاستبداد والفساد.
وكل من قرأ نصوص هذه الأحلاف والمشاريع الغربية سيستنتج أن وضع شعوب دول الجامعة العربية، كان سيكون بمستوى شعوب دول أوربا الغربية، لو أن سياسييها ظلوا حلفاء للولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي، وفقا للأهداف المعلنة لهذه الأحلاف الغربية.
وقبل أن أتحدث عن الأحلاف والمشاريع الغربية التي قدمتها دول الغرب العظمى، لدول الجامعة العربية، لا بد من التعريف بمعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، التي أبرمها مندوبو دول الجامعة العربية، في 13 نيسان من عام 1950، على خلفية الإخفاق العربي الذي لحق بقضية فلسطين في حرب 1948، نتيجة لعدم استطاعة الدول العربية، إيجاد التعاون العسكري والاقتصادي الفعال في أول لقاء عسكري مع الدولة العبرية. فعقدوا مؤتمرا لتلافي قصور دولهم في الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي.
أعود الآن للحديث عن حلف بغداد، فأقول أن الدعوة للدخول في حلف بغداد، كانت في خمسينيات القرن العشرين من قبل حكومة بريطانيا العظمى. وكانت غاية هذا الحلف الوقوف بوجه المد الشيوعي في أوطان الشرق العربي الإسلامي.
ودول حلف بغداد كانت إلى جانب بريطانيا، العراق وتركيا وإيران وباكستان. ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت هي صاحبة فكرة إنشاء هذا الحلف، إلا إنها لم تشارك فيه، ولكنها وعدت بتقديم العون الاقتصادي والعسكري لكافة الأعضاء في هذا الحلف، واكتفت بعضو مراقب في اجتماعاته، ولم تنضم للحلف أبدا، رغم أنها كانت صاحبة الفكرة.
وكانت حكومتا العراق وتركيا، قد أعلنتا في إطار حلف بغداد في 12 /1/1955، عقد اتفاقية بينهما تشمل التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري، وتم اتخاذ الاجراءات اللازمة لاستقطاب الدول العربية إليهما. وبعد يومين زار دمشق وفد حكومي تركي برئاسة رئيس الوزراء عدنان مندريس.
وعندما ناقش رئيس الوزراء فارس الخوري، الوضع حول الاتفاقية العراقية التركية، في البرلمان السوري، قال بالحرف الواحد: أن المعاهدة "لا تمتلك مزايا سيئة معينة"... وهذا ما جاء في الصفحة 88 من كتاب الصراع في سوريا للأستاذ بيير بوداغوفا.
ولكن ماذا كان موقف الرئيس جمال عبد الناصر من حلف بغداد؟
لنرى نصوص اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس الموقعة بتاريخ 19 تشرين أول/أكتوبر عام 1954، والتي قام بتوقيعها، عن حكومة الجمهورية العربية المصرية، كان رئيس الوزراء جمال عبد الناصر حسين بكباشي ووقعها عن حكومة المملكة المتحدة وزير الدولة للشؤون الخارجية أنتوني ناتنج ANTHONY NUTTING
وسأنقل حرفيا المواد الرابعة والخامسة والسادسة من نص الاتفاقية، عن الموقع الالكتروني للدكتور يحيى الشاعر. لأن هذه المواد الثلاثة، توضح ضمنا أن اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن قناة لسويس أخذت بعين الاعتبار:
1 ـ معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي العربي لعام 1950 بين دول الجامعة العربية.
2 ـ وضع الجمهورية التركية في حلف شمال الأطلسي.
والمواد الثلاثة من اتفاقية الجلاء هي التالية:
• مادة 4 : في حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج على أي بلد يكون عند توقيع هذا الاتفاق طرفاً في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية الموقع عليها في القاهرة في الثالث عشر من شهر أبريل سنة 1950 أو على تركيا، تقدم مصر للمملكة المتحدة من التسهيلات ما قد يكون لازماً لتهيئة القاعدة للحرب وإدارتها إدارة فعالة. وتتضمن هذه التسهيلات استخدام الموانئ المصرية في حدود ما تقتضيه الضرورة القصوى للأغراض سالفة الذكر.
• مادة 5 : في حالة عودة القوات البريطانية إلى منطقة قاعدة قناة السويس وفقاً لأحكام المادة (4) تجلو هذه القوات فوراً بمجرد وقف القتال المشار إليه في تلك المادة.
• مادة 6 : في حالة حدوث تهديد بهجوم مسلح من دولة من الخارج على أي بلد يكون عند توقيع هذا الاتفاق طرفاً في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية، أو على تركيا يجري التشاور فوراً بين مصر والمملكة المتحدة.
ولكن رئيس الوزراء في جمهورية مصر العربية، جمال عبد الناصر، بعد أن أقال رئيس الجمهورية اللواء محمد نجيب، وأصبح رئيسا للجمهورية، غيَّر رأيه. وفي 26 تموز/يوليو من عام 1956 أعلن تأميم قناة السويس، رغم أن عقد تأجيرها كان سينتهي عام 1968.