كانت السّاعة قد ناهزت العاشرة صباحا حين رأيتك، قميص أسود و نظرة بلهاء، لم أهتمّ يومها لأمرك، لم ألاحظ سوى فضاضتك، يومها لم تصمت ، كنت تتكلّم دون انقطاع في آخر الرواق وقد استحسنت صوتك لا كلامك، حتّى أنه ،لسبب ما أجهله، بقي يرنّ في أذنيّ. التفت و لم ألمح سوى قميصك، كانت التفاتة خاطفة: قلت لك، لم أهتم لأمرك ، حتّى أني تذمّرت يومها متسائلة في نفسي "ألا يكلّ هذا الأخرق من الحديث؟". لم أكن أعلم أنّك لا تحبّ أن تُوصف بالغبيّ. أضنّ أنّك لم تلاحظ وجودي، لست من الأشخاص الذّين يبرزون بين هذا الكمّ الهائل من القطيع، هكذا هم بالنّسبة لي.
أمّا أنت، فتستطيع ترك أثر ما، مهما كان ضئيلا، أثر كفيل بأن يجعلني أتذكّر صوتك،أتذكّره بكل تفاصيله، تلك النّبرة المتهكّمة في أغلب الأوقات تستطيع أن تثير اهتمامي كلّه: تستطيع أن تمضي الوقت و أنت تحدّثني عن الباذنجان بينما أجلس متسمّرة في مكاني أصغي إليك فقط ، أعلم أنّك تجهل هذا، تجهل رنينك داخل رأسي. انّه ليس بالجميل و لا القبيح و لكنّي حين سماعك أدرك أن الكلمة لا يجب أن تُقال إلا بتلك الطّريقة، طريقتك أنت، تلك النّبرة أو فإنها تفقد نصف معناها. أنت قادر أن تحيي الكلمات، أنت تكسبها حين تلفظها روحك. أنت تمنحها جزءا منك حين تكتبها. كتاباتك موضوع يطول شرحه، أو لنقل يستحيل. كتاباتك مقدّسة ، لا يمكن أن يكون بشريّا من يكتب مثلك، ومن مثلك؟ أنت إله، و أنا أحبّ إلهي.
لازلت أذكر أوّل لقاء بيننا، أوّل مرّة تبادلنا بضع كلمات. كنت قادما، تقترب شيئا فشيئا فقلت "ذاك الشّاب الفظ"، لم أعلم أنّك كنت متجها نحوي، و لو علمت للذت بالفرار لما لبثت في مكاني و تصرّفت بغرابة و غباء. لست منْدفعة مثلك و لم أكتسب يوما قدْرتك على التصرّف. كُنت خائفة حينها، أحسست بالحرارة تكسو وجهي، لم أكن أريد سوى إنهاء الأمر بسرعة و الذّهاب. كُنت لطيفا يومها، مُبتسما ابتسامة خفيفة، تتكلّم ببطء، بذات الصّوت، بذات النبرة، نبرة لنقل "جميلة"، لطالما أفشل في تسمية الأشياء بمسمّياتها أو وصفها بدقّة كما تفعل أنت، كيف لي أن أفعل مثلك؟ أنت "طفل تلعب و تلهو الكلمات".
لازلت أذكر حديثنا المقتضب، وجهك و الشّمس تلفحه و عيناك نصف المغلقة، أنت تعجز عن الرّؤية عندما يكون الجوّ مشمسا، هكذا بدا لي، و هكذا كنت تقول لي دائما. هذا جعلني أضنّ أنّك لم تنظر إلي أبدا. فكرة أنك لم تتفرّس فيّ يوما، لم تتمعّن في وجهي،و لم تدقّق في تفاصيله أراحتني، جعلتني أحس بشيء من السّعادة. لطالما راودني الإحساس بأنّي أفتقد إلى الجمال، كنْت أمقت المرآة مقتا يجعلني أقف أمامها وقفة المهزوم و أنظر إليها بخيبة ، ربّما لهذا السّبب لم أفكّر، طوال ما يناهز العشرين سنة، في اقتناء واحدة و وضعها في غرفتي، و لن أفكّر... لأني، كما تعلم ،أخشى القيام بكل ما لم أتعوّد عليه، أخشى تغيير مظهري، طريقة نطقي للحروف و نسياني بعضها حينما أتكلم، تصرّفي الغبيّ أمام شخص غريب، و تصرّفي الغبي أمامك، تلعثمي أمامك ، عدم تذكّر أي شيء أمامك، نظرتي الفاضحة ، و تقديسي للكائن الفكرة داخلك.
أضنّك تستغرب قدرتي على تذكّر كل شيء يتعلّق بك، طريقة جلوسك، يديك، الشّيء الأسود الذي تضعه حول معصمك الأيسر،قدّاحتك السّوداء الغريبة، عيناك الصّغيرتان، ابتسامتك، نظرة الاستياء حين أتفوّه أمامك بإحدى حماقاتي المعتادة ، تحليل الأشياء بطريقتك الخاصّة، و قهقهتك حين أهزم أمامك... نسيت أن أخبرك أنّى أحبّ أن أراك تضحك من غبائي، ربّما كان من المفترض أن أستاء لكن لسبب ما فانّ ضحكك يسعدني، يجعلني أرى المكان أوسع، كما لو أنه تمدّد فجأة و أصبح مُنارا أكثر، كإحساسي يوم اكتشفت أنّه يوجد في هذا الكوكب مكان مخصّص لبيع الألعاب، ، كإحساسي يوم قرأت كتابا لأوّل مرّة: يوم تدرك فيه أنّ هذا الكوكب كبير ، كبير بما فيه الكفاية لتغمض عينيك و تتنفّس عميقا ، و تبتسم، ابتسامة رضا للحظات، و تحسّ بأنّك لا تريد شيئا ولا تنتظر أحدا.