حين يتحدّث الجامعي أو الأكاديمي التونسي - ما بعد الثورة- عن "الواقع" الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي المحلّي ينطلق أوّلا من تحليل السياقات التاريخية والسياسية لدولة ما بعد الاستعمار ليصل أخيرا إلى تحليل التحوّلات التي يشهدها الحقل الديني ودور "الإسلام السياسي" الوسطي أو الراديكالي في تأزّم الوضع أو انفراجه.
وإن انقسمت "النخبة" الفكرية والثقافية التونسية إلى صنفين: الأول يعتبر أنّ بورقيبة هو صاحب الفضل في بناء الدولة الحديثة واستتباعاتها من قوانين تقدّمية ومشاريع وطنية حقّقت تحديث المُجتمع وتحرّر المرأة وانتشار التعليم العصري، كما يبارك أصحاب هذا التوجّه، بشكل ضمني أو علني، مُحاربة بورقيبة للزيتونيين والإسلاميين وإقصاؤهم من المشهد السياسي لأنّهم حسب رأيهم يُمثّلون الخطر المُحدق بمكاسب الدولة الحديثة، أمّا الصنف الثاني يعتبر أنّ بورقيبة الزعيم المُستبدّ الذي هيمن على جميع مؤسّسات الدولة ووضع يده على ماكينات صناعة السياسات التي كانت نتائجها العينية ما آلت إليه الأوضاع من انفصام في الشخصية التونسية وتصحّر سياسي وثقافي، غير أنّ كلا المجموعتين تتغافل، عمدا أو سهوا، عن تحليل دور الجامعيين والأكاديميين في صناعة هذا الواقع.
إذن، ما نُلاحظه من خلال مُتابعتنا للخطاب المكتوب أو المسموع - تحليلات تلفزية ومنشورات ومؤتمرات وندوات - أنّ أغلب المُحلّلين والباحثين الأكاديميين والجامعيين يُحمّلون "الدولة الحديثة" التي يُمثّلها "بورقيبة" مسؤولية الخير كلّه أو الشرّ كلّه، ويتوصّل جلّهم إلى نتيجة أنّ التغيير في طريقة التعاطي الرسمي، بعد الثورة، مع "المجال الديني" هو الذي أنتج هذه العنف الذي يشهده المُجتمع التونسي وبات، حسب رأيهم، من الضروري العودة إلى التعامل البورقيبي (الأمني - الإقصائي) مع مظاهر التديّن حتى يعود المجتمع إلى نمط العصرنة وقيم الحداثة.
لكن ما نلاحظه كذلك أنّه حين تضطرّ هذه النخب إلى الحديث عن دورها كــ "جماعة مُفكّرة"، يُفترض أن تكون فاعلة ومؤثّرة، تكتفي بتقديم توصيف تبسيطي وتبريري للسلوك الخاص لفاعليها دون التمييز بين العوامل الجوّانية والعوامل الخارجية التي أثّرت في "فعلهم" والتي تعكسها مُخرجات ممارستهم العلمية المادية (ما يُنشر من أبحاث ومقالات في مجلاّت ودوريات علمية ومساهماتهم في رسم السياسات التعليمية التي أوصلت البلاد إلى هذا الواقع) أو الرمزية (المُستوى العلمي الضحل لطلبتهم والدرجة المُتدنّية التي وصلت إليها الجامعة التونسية تعليما وبحثا وإنتاجا علميا...الخ).
هذا الواقع يدفعنا إلى التساؤل عن مدى مصداقية خطاب تحميل "الدولة ما بعد الاستعمارية" أو بورقيبة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد بإيجابياتها وسلبياتها؟ وهل صحيح أنّ "الإسلام" هو الشرّ كلّه؟ ألم يُساهم الجامعيون والأكاديميون في إنتاج الجزء الأهمّ من هذا الخير/الشرّ الذي آل إليه الواقع الاقتصادي والسياسي والثقافي؟ وما قيمة المعرفة العلمية إن لم تُساهم في قراءة "الوقائع" وبناء "الواقع"؟ ولماذا لم يتنبّأ الأكاديميون بسقوط النظام وانهيار هرم السلطة السياسية؟ ولما عجزوا عن تقديم قراءة للتحوّلات وتأويلات لشعاراتها ورموزها تجنّب البلاد هذه المآلات؟
حين نُدقّق في سلوك الجامعيين والأكاديميين خلال الستة عقود الفارطة نكاد لا نلاحظ مُساهمات جادة في إنارة العقول حول معنى حقيقة الوقائع، ولا نجد اهتماما لدى النخب التي تزعم أنّها تُمارس فعل "التفكير" للاقتراب من قضايا المُجتمع، إنّ ما يهمّهم بشكل أساسي هو إمكانية تأمين تحويل الاعتراف بقيمتهم "العلمية" إلى موارد مالية، أو استثمار مواردهم الرمزية وتحويلها إلى سلعة تابعة للعبة العرض والطلب، والمنافسة غير المُتكافئة داخل سوق السياسة أو سوق "المعرفة".
حين نرصد أسماء الفاعلين داخل مؤسّسات الدولة وعلى رأس مواقع صناعة القرار ومراكز رسم السياسات طوال العقود الفارطة وإلى حدود هذه المرحلة التي يُصرّ البعض على وسمها بـــ"الانتقالية"، نعاين بوضوح علاقات التبادل (الاعتراف) بين السياسي والمعرفي، وتبدو بوضوح قُدرة الجامعيين على استثمار مواردهم الرمزية وتحويلها إلى رساميل مادية مصالح عينية (مواقع داخل مؤسّسات الدولة) وأخرى رمزية (حظوة ووجاهة).
لا أحد يُنكر واقعة ارتباط سوق الفكر والمعرفة بشروطهما الخارجية - السياسية والاجتماعية-، ولا أحد يُشكّك في تأثير مُتغيّرات الاقتصاد والسياسة على مُتغيّرات صناعة المعرفة العلمية وخاصة ذات العلاقة بالإنسان والمُجتمع، ولكن ليس من الموضوعية إنكار الخصائص الذاتية لسوق "الفكر والمعرفة"، وكذلك ليس من الحياد عدم البحث والتدقيق في الميكانيزمات الداخلية التي تُحرّك سلوكات الجامعيين والأكاديميين وتُحدّد طبيعة روابطهم بالأسواق الأخرى وتكشف تفاعلاتهم داخل هذه السوق أو تلك وأثرها على المُجتمع.
إن كان من الهيّن على الباحثين والأكاديميين التفكّر حول "الحقل الديني" من منظور اقتصادي أي البحث عن المصلحة - الربح الشخصي أو الجماعي-، وإن كان من المشروع التعاطي مع "المؤسّسة الدينية" بصفتها سوقا يتواجه بداخله فاعلون جدد وقدامى للدفاع عن مصالحهم بأفضل ما يُمكن. وإن بات من المُتداول لدى "العلماء" و"المُحلّلين" تدنيس المُقدّس وطرح أسئلة فلسفية حول ثوابت الدين والمسائل المُتعلّقة بالهويّة؟ لماذا لا يُمارس هؤلاء الأكاديميين مبدأ الانعكاسية الفكرية ويُخضعون "سوق الممارسة العلمية" إلى نفس المُقاربة البحثية؟ لماذا لا يستخدم علماء الاجتماع، على وجه الخصوص، مفهوم "المصلحة" لوصف مجموع من الوقائع المُتعلّقة بسلوك الجامعيين والأكاديميين؟ لماذا لا أحد يتجرّأ على تحميل "الجامعيين" مسؤولية رداءة التكوين العلمي وعدم تمكين الطالب من بناء عقلا نقديا يسمح له بخوض تجربة الحياة وتعلّم قواعد حلّ الألغاز؟ لماذا لا أحد ينتقد السلطة التي يُمارسها الأستاذ الجامعي داخل الفرع العلمي ولا يسمح بتطوّر باراديغمات مُغايرة لتلك المُهيمنة داخل اختصاصه؟ ألم يُساهم الدكاترة والجامعيين في تكريس نوع من الدوغمائية في صلب عملية نقل العلم بفرضهم لما يجب تدريسه؟
أمام التحوّلات التي يشهدها المُجتمع بات من الضروري إعادة النظر في أنماط التفكير وطرائق مُقاربة القضايا الجديدة، والبحث عن باراديغمات مُلائمة لحلّ المسائل المطروحة دون مُغالطات تاريخية وخاصة دون ضغط مفاهيمي ولا أداتي - ميثودولوجي.