رغم تفاؤلي الذي يجري مني مجرى الدم، فإنني أجد نفسي أحيانا في عوالم التشاؤم وعلى مدارات القنوط بحكم ما أراه من تدجين الدّولة للثورة ، وارتداد الرفض المطلق "للنسق الاستبدادي" إلى تسويغات شرطية و تبريرات براغماتية تفرضها مواقع السلطة ورهاناتها. وقد تستغربون عندما أقول بأنني لا أجد أقرب من الحلاج إليّ في رَيْبيّتي هذه إذ أسرّ لبعض خاصته بما لا يفقهه إلا الأقل : "إني أحمل خشبتي على كتفي منذ أربعين سنة، و لست أجد أحدا يصلبني عليها".
ما الذي يجمع بين انحراف الضوء إلى "الثقب الأسود " للسلطة ،وبين "خشبة الصليب" التي لا مخلِّص عليها و لا فداء ؟ إنه قول أبي -رحمه الله- منذ "النهضة الأولى "في أواخر الثمانيات وأوائل التسعينات من القرن الماضي:"وليدي تحبّو تنحّوا الزين ،حتى كان تنحّى ما يجي بعدو كان واحد من الصحاح والزوّالي يقعد زوّالي ،يخدمو بيه الصحاح و يطيشوه ".
كم كنت حكيما يا أبي ، اختزلتَ بعفوية "الأمّية" التي لا يضادّها العلم ، وبحكمة الشعب الذي خرج من حكم الحرف و الدّعوى التي هي جُمَاع الأمر ومنتهاه في بلاد التررني ، لقد رأيت بظهر الغيب ذاك الذي نخشى أن نراه عيانا: تستطيع علاقات التبعية للخارج واللاتكافؤ الجهوي في الداخل بما هي علاقات "هامش" بمركز هو الإمبريالية الغربية أن "تتبرّج" أو "تتحجّب" أو "تنتقب" في مستوى المفردات المعتمدة في "شرعنة" هيمنتها على المجال العام أو آليات تقاسمه بين الوكلاء المحلّيين للسيد "الأجنبي" ذي الطربوش أو العقال، لكنّ الرساميل المادية والرمزية- في النهاية- لن تكون إلا لل"صّحاح"، أي لأولئك الذين اختزلتهم الحكمة الموروثة عن أجيال لا حصر لها في مفردة تُحيل إلى الجسد الصحيح (غير السقيم) والفعل الصحيح( غير الاعتباطي او المثالي) والفهم الصحيح( غير المرتبط بانتظارات الاخرين إلا صوريّا).
قام أصحاب الأسقام التي لا تبرأ بالثورة، دفعوا من أرواحهم وأجسادهم الكثير ليُسفّه أحلامهم "الصحاح الجدد" بعد أن تغيّرت جهاتهم "قليلا"، وتبدلت وجوههم "قليلا"، واختلفت عباراتهم "قليلا" .....لكنهم لن يعطوا للمتعبين وحاملي الأثقال إلا "قليلا" من الترياق "الثوري" خوفا عليهم من "السّم" الذي فيه من الحقائق التي لا يستطيعون النظر إليها من غير أن يطرفوا: أغلبنا الأعم في الحقيقة هو وقود الصراع بين"الصحاح" في صيغتهم "المُعولمة" وبأدواتها "المتونسة" بنمطها المجتمعي الرسمي أو بنمطها المجتمعي الموازي...فلا قرق..
ولكن أين نحن بالضبط في هذا الجحيم، لننظر جيدا من حولنا عسى أن نقف على أدوارنا الحقيقية في هذا العبث ذي الألف وجه وألف لسان : أينا "الناس" وأينا "الحجارة" في هذا الجحيم الذي يصرّ زبانيته عن أن يسموه "وطناّ؟؟؟