أنطلق من التساؤل حول طبيعة علاقة المُثقّف التونسي بالنصوص التراثية بشكل عام وبالقرآن على وجه الخصوص، ويستند هذا السؤال إلى اعتبار أنّ العلاقة بين المُثقّف التونسي (الجامعي والأكاديمي) وتراثه علاقة غير مؤسّسة وغير مُحدّدة الغايات، إذ لا تجسّد مُختلف تلك التفاعلات مواقف فكرية مبنية ولا تعكس رهانات مُجتمعية مُعلنة.
بالرغم من اختلاف السياقات الثقافية والتاريخية فإنّ توصيف تفاعل المُثقّف الغربي مع الكتب المُقدّسة -الإنجيل والتورات- يسمح بالإجابة على السؤال أعلاه دون تحليل أمثلة بعينها.
يذكر بيار لاساف (Pierre Lassave) في دراسة عن "سوسيولوجيا الترجمة مثال ترجمة الكتاب المُقدّس" أنّ ترجمة النصوص المؤسّسة، ومن بينها التورات والإنجيل تشهد ازدهارا لم يسبق له مثيلا. حيث تمّ رصد ترجمات للتورات تتجاوز 2300 ترجمة من بينها 30 إلى اللّغة الفرنسية.
ويشير لاساف إلى أنّ الأدباء والأكاديميين الغربيين يعتبرون أنّ ترجمة هذه النصوص تُقدّم ميادين بحثية متضافرة الحقول والميادين: ثقافة وإعلام وأدب ولغة... وأنّها تفتح حوارات حول مسائل ذات علاقة بالتاريخ والتراث والحضارة. ولعلّ هذا ما دفع بالكنيسة، مُكرهة، إلى التفريط في احتكار عملية قراءة وتأويل "الكتاب المُقدّس" وفتح المجال أمام اختصاصات وفروع علمية مُتعدّدة لتملّك النصّ والتفاعل معه تحليلا وتشريحا وتأويلا (فلسفة وأركيولوجيا وتاريخ وحضارة...). كما يؤكّد بعض الباحثين أنّ الترجمات إلى الألمانية والإنجليزية ساهمت في إثراء اللغة وتأسيس الأدب القومي.
نلاحظ من خلال مُعاينة تفاعلات الجامعيين والأكاديميين الغربيين مع التورات والإنجيل، أنّهم تخلّصوا من معارك الحقيقة واللاّحقيقة ومن عقدة ثنائيات الكفر والإيمان وانتقلوا إلى باراديغمات جديدة في التعامل مع "المُقدّس"- اقتصادية وثقافية وقيمية...-
مثّلت الترجمة التي وُسِمت بــــ « Bible des écrivains »واقعة سجالية داخل الإعلام المقروء والمرئي في فرنسا سنة 2001. حيث، وخلال ثلاثة أشهر فقط، تجاوزت المبيعات مائة ألف نُسخة، وهي ظاهرة مثيرة للجدل في بلد علماني لائكي.
الملاحظ الأولى، أنّ تفاعلات الأكاديميين لهذه الترجمة جاءت مُغايرة لسابقاتها التي تركّز على الجوانب الدينية والطقوسية، إذ قدّمت أجوبة معاصرة برهانات جديدة بالعودة إلى المصدر مع محاولة الغوص داخل النصّ الأصلي والعمل على الإنصات إليه بعقّل مُنفتح ومقاربات علمية.
والملاحظة الثانية، أنّ هذه الترجمة في صيغتها (BNT) تولّدت عنها أعمالا أدبية وفنية كثيرة جمعت بين الأسطورة والواقعية الجديدة وبين الفلسفة والتاريخ وبين الحداثة والتجديد وبين القصة والشعر... وخاصة بين عقلانية الأكاديمي وصرامة رجل الدين المُحافظ.
إذن يقول لاساف أنّ صاحب هذا المشروع FREDERIC BOYER نجح في المزاوجة بين أقلاما معروفة في الوسط الثقافي الفرنسي (أكثر من عشرين اسما) وبين عدد من رجال الدين المُعتمدين (ثلاثين). فكانت النتيجة فسيفساء من القراءات والتأويلات التي زعزعت القراءات القديمة. وأنتجت حراكا ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، ويرى أصحاب هذه الأعمال أنّ الترجمات الجديدة للكتب المُقدّسة تُغذّي الفكر والأدب والفنّ وتُثري اللّغة وتنتج المعنى إضافة إلى خلق حركية داخل سوق الثقافة (الترجمة والتأليف والنشر والسينما والمسرح والشعر والرسم ...).
بهذه البراديغمات الجديدة يتجوّل الأكاديمي الغربي، لعصر ما بعد الحداثة، بين الدين والعلم وبين المُجتمع والمُقدّس وبين الفنّ والدين وبين الإبداع والتمثّلات وبين علمنة الحياة وقيم الدين الكونية وخاصة بين تقاطع الحداثة وثقافة المُجتمع. وكذلك بهذه الإستراتيجيات يتزاوج رجل العلم ورجل الدين وتتضافر جهودهما للبحث عن قراءات تتساوق مع العصر، وهكذا تتسع حلقة المُستفيدين من ثراء لغة النصّ وتعدّد الصياغات التي وردت عليه، ممّا يسمح برفع الالتباس الذي كرّسته القراءات التقليدية وفتح الأبواب أمام المُفكّرين والأدباء والفنّانين لممارسة دورهم في صناعة القيم ونحت المعنى دون الاضطرار إلى مضادّة مُقدّسات المُجتمع وتمثّلاته.
أخيرا، لعلّ السياقات الثقافية والسياسية في تونس لا تسمح بمثل هذه التفاعلات وربّما لن يكون هناك تزاوج بين الأكاديمي والإمام ولا بين الفنّان والخطيب، ولا بين السياسي والداعية لكن يبقى تملّك النصّ قرآنا وحديثا - قراءة أو حفظا- حقّا مُشاعا، وتبقى طرائق التفاعل مع هذا النصّ خيارا شخصيا. كما أنّ لا أحد من حقّه التدخّل للضغط في هذا الاتجاه أو ذاك للتأثير على صناعة القرار السياسي المُتعلّق بالشأن الديني، وليس من التعقّل فرض إدارة الحقل الديني انطلاقا من قناعات شخصية لعقول وجدانية غاضبة ومهوسة بخطر "الإسلام" ومريضة بظاهرة عنفنة الدين وتحميله مسؤولية ما يحدث من ذبح وقتل وموت في جميع أنحاء المعمورة، حتى لو كان أصحاب هذه العقول جامعيين يُدرّسون الحضارة الإسلامية في الجامعة التونسية.