لكلّ من يسألونَنِي بين الحين و الآخر عن هجرتي شبه التامّة للحديث عن السّياسة و عدم التّعليق عن الأحداث السياسيّة و تجنّبي الخوض في الشّأن العام .. أقول ما يلي :
1 - السّياسة في أبسط تعريفاتها هي فنّ إدارة الشّأن العام .. و في بلادنا ، أعني بلاد الشّعوذة نخبة و شعبا ، فإنّ السّياسة صارت فنّ تخريب الشّأن العامّ .
2 - إذا كانت السّياسة نظريّا هي البحث عن حلول للمشاكل المجتمعيّة فإنّها في بلادنا - و ككلّ بلاد متخلّفة و عاجزة - تبدو لي و كأنّها موجودة لتطوير المشكلات بدل حلّها و تعميق الأزمات بدل علاجها : السّياسة في بلادنا هي فنّ تأجيل الإنفجار لا أكثر .
3 - لم أرى من نتيجة حقيقيّة للسّياسة في هذه المساحات الجغرافيّة حيث ينتشر المشعوذين في كلّ مكان و يملأون الحياة صخبًا و قرفًا إلّا أنّها صارت أداةً رائعة للإلهاء حيث يتشاتَمُ النّاس صباحا مساءً و يتحاقدون و يطلقون عقيرتهم بالصّياح وراء القضايا الوهميّة .. ثمّ أنّها تقدّم علاجات نفسيّة مؤقّتة للسياسيّين عبر تمكينهم من الشّعور الكاذب بالأهميّة و البطولة فيتمتّعون بذاك الإحساس المَرَضي بالغرور فإذا بهم زعماء بائسين فوق كومة من القرف و الخراب .
4 - هذه البلاد يمكن لقناة إعلامية واحدة أن تفعل في صميم الشّعب من الخراب أكثر من قدرة مائة حزب على الإصلاح .. و بالتّالي كنتُ قد آقترحتُ سابقا و بعمق على المهتمّين بالسّياسة أن لا يُفكِّروا في تكوين حزب جديد أو الإنضمام لأحزاب قديمة و لكن أن يبادروا لإنشاء قناة إعلاميّة ، مراكز دراسات ، جماعات فكريّة ، ملتقيات للتفكير و الإبداع .. إلخ .. فما رأيتُهم راغبين و لا قادرين إلّا على تأسيس الأحزاب .. إنّها لعنة السياسة .
5 - لقد تحوّل العمل السياسي في بلادنا إلى عمل عدمي دون أفق .. فالمثقّفين يدورون حول نفس الأفكار و التّحاليل و الغوغاء يكرّرون دون جدوى نفس الشّتائم و الأحقاد فيملأون صدورهم و صدور محيطهم بالكراهية .. و هكذا يمضي الوطن برمّته في مركبٍ مثقوب إلى مصيرهِ الحتميّ حيث لا يمكن للعقول الضيّقة و القلوب الحاقدة إلّا أن ترمي بنا في قاعِ المحيط .
6 - أنا تحوّلت للحديث عن الحبّ الّذي أرى أنّه السّياسة الوحيدة الصّادقة و النّاجعة فعلا .. فعلى حين تعِدُنا السّياسة بالسّعادة كذبا و زورا فإنّ الحبّ يصنع تلك السّعادة فعلا بصبر و مثابرة .. فآتركوا السّياسة بمكرها و أوهامها و تعالوا إلى النّور الفسيح الّذي ينشره الحبّ في كلّ النّفوس دون تمييز على أساس الإنتماء و الإيديولوجيا .
7 - يُصلِحُ الحبّ دوما ما تُفسِدُه السّياسة : نخرج من السياسة ملوّثين و حاقدين فيجعلنا الحبّ أنقياء و طاهرين .. و بالتّالي لا تنتظروا من الأحزاب برامج إصلاحيّة فإنّ الحبّ هو الطّريق الوحيد لإصلاح المجتمعات و الأفراد .
8 - أفكّر دوما في عقم هذه البلاد على كل المستويات و يبدو لي أنّ الرّومان حين هزموا حنّبعل و دمّروا قرطاج العظيمة قد نثروا ملحا كثيرا و فاسدا فوق ترابنا ، و أخمّنُ أنّ كميّات هائلة من الملح قد تسرّبت إلى أرواح أجدادنا القدامى فتوارثنا القحط و الجدب و العدمية الحضاريّة جيلا بعد جيل : إنّ هزيمة حنّبعل الأخيرة تلك لا تزال تقُضُّ مضجعي إلى اليوم .
9 - لا أهتمّ بالأحداث السياسية و نزوات الشعب اليوميّة .. فأنا أنظر للسّياسة اليوم و في بلادنا خصوصا على أنّها طفحٌ جلدي بلا أهمية و لذلك وجّهت ناقتي من زمان إلى الآفاق البعيدة حيث تبدو مشكلات الإنسان من الأمراض الباطنية العميقة الّتي لا تمثّل فيها السّياسة إلّا واجهتها البرّاقة .
10 - سيكون للسّياسة دور حقيقي في تغيير المجتمعات حين يقودها الفلاسفة و الحكماء و الأحرار .. أمّا الآن و في هذه المناخات فلا يمكنُنا نحن الغرباء الّذين تجاوزنا حتّى مرحلة أن نكون أحرارا .. إلّا أن ننصب خيامنا فوق الجبال الشّامخات و أن ننتظر شروق شمس المستقبل حيث ستبدأ دورةً جديدة للحياة .. عساها تكون جولتنا نحن بحقّ .