طلبة الأستاذ المؤرخ هشام جعيط، حتى أولئك الذين لم يتبعوا تخصصه في التاريخ الإسلامي، لا يمكن أن لا يكون قد ترك في تكوينهم العلمي أثرا لا يمحى. كانت دروسه تشع بهجة ومتعة قل نظيرها. أتذكر أننا كثيرا ما كنا نقترب منه بعد نهاية الدرس لنقتطع مزيدا من وقته نسأل أو نلاحظ فكان ينصت إلينا بكل اهتمام، وذات مرة سألته عن بعض ما جاء في كتابه "أوربا والإسلام"، فما كان منه إلا أن علق: أنتم تتابعون أكثر من أساتذتكم! شعوري أن لو لم أدرس عنده لحق لي أن أغبط طلبته.
مناسبة هذا الكلام الندوة العلمية التي انتظمت يوم 6 ماي الجاري تكريما للأستاذ الكبير هشام جعيط، تحت عنوان "تونس تحتفل بمفكرها الكبير بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، نصف قرن من الكتابة 1965-2015". ربما هي من المرات القلائل التي يتم فيها الاعتراف بأحد أعلامنا الكبار في حياته. وقد كانت العادة أن يعيش مثلُه "يتمنى في عنبة…". والأكيد أن هذا التكريم من الأدلة على أنه مختلف عن الآخرين، حضر طلبته من مختلف الجامعات وحاضروا حول فكره وإنتاجه محمد حسن، لطفي بن ميلاد، عبد الحميد الفهري، نبيل قريسة… وغصت القاعة بالحضور، وكان الجو علميا وحميميا، وهو ما لا يثير فضل وسائل الإعلام والدليل على ذلك غيابها، في تفضيل للسيقان على الرؤوس، تطبيقا للقولة الشهيرة "آش نعملوا بيها الكتب؟".
بعد انتهاء الجلسة الأولى التفت إلى صاحبي وقلت له: المحاضرون وجميعهم من أساتذة أقسام التاريخ بينوا أنهم متمكنون من اللغة العربية أكثر من الكثير من أساتذة أقسام العربية الذين كثيرا ما نسمعهم يتكلمون فيخطئون ويتلعثمون فيهربون إلى استعمال الدارجة.
لقد تناول المحاضرون بالعرض والدراسة كتابات الأستاذ جعيط التاريخية سواء تلك التي تتعلق بالتاريخ الإسلامي المشرقي أو تاريخ المغرب الإسلامي، تمنيت فقط أن تم تناول مواقفه وكتاباته عن عصره، والتي انتقد فيها الاستبداد سواء في نسخته البورقيبية أو النوفمبرية. فقط وقع التذكير بمقال شهير كتبه في الستينات "الوصوليون وصلوا" (Les arrivistes sont arrivés). نتذكر أيضا أنه كان أول من انتبه إلى فقدان النظام النوفمبري لشرعيته بعد سنة واحدة على الانقلاب، بمعنى أنه لم يلتزم برجا عاجيا مثل آخرين، ولم يفعل مثلما فعل أغلب جماعة "الحضارة"، إذ منهم من توزّر، ومن طمع في الوزارة، ومن كان في اللجنة المركزية… ومازالوا يشغلون الناس، صياحا ونشازا واستفزازا.
في غوغل سكولر، تبلغ الاستشهادات بكتابات الأستاذ هشام جعيط 581، وتقل عن 10 بالنسبة للكثير من أساتذة "الحضارة" العربية، وبعضهم لم يتجاوز دائرة الصفر استشهاد. وبلغة السيقان، الرجل يلعب في قسم غير قسمهم. نستدل على ذلك من خلال الفرق بين ما يرددونه من كلام قديسيهم، وما عبر عنه مشيرا إلى كتابه السيرة النبوية: "من خلال هذا الكتاب يمكنني أن أقول إن الاستشراق انتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين" ويقصد نفسه. انتهى التعبير.