كلّما قامت السلطات بغلق المعابر الحدودية بين تونس وليبيا إلاّ وأثارت المسألة جدلا بين مُؤيّد ومُعارض، ويحتدّ الجدل كلّما دارت مواجهات بين أهالي الجنوب وقوّات الأمن.
المؤيّدون لغلق المعابر حجّتهم أنّ ليبيا تُصدّر إلى تونس "الممنوعات" والسلع التي تهدّد الأمن والاقتصاد التونسي، والمُعارضون للغلق يعتبرون أنّ ليبيا هي المُتنفّس الوحيد لأهالي الجنوب والمصدر الرئيسي لموارد عيشهم.
إذن لكلّ طرف وُجهة نظر، وكلّ وُجهة نظر تعتمد مجموعة حجج وبراهين بعضها واقعي وبعضها الآخر نظري، والسؤال الذي يفرض نفسه بشكل مُلحّ: ما العمل؟ ما العمل وأهل الجنوب تعوّدوا على ليبيا؟ ما العمل وأهل الجنوب يشعرون بالانتماء لليبيا ثقافة وجغرافيا؟ ما العمل وقد ضاقت الأرض بما رحبت؟
حين ندقّق في الوضع الاجتماعي والاقتصادي من بن قردان إلى صفاقس نعاين تأثير السوق الليبية على الدورة الاقتصادية لهذه الجهات، ونحن على الطريق بين تونس وبن قردان نلاحظ عدد الشاحنات المُحمّلة بالمنتوج التونسي في اتجاه ليبيا - طماطم ومواد بناء ومعدّات طبية وأثاث وفخّار… الخ- ونلاحظ عدد السيارات الليبية الواقفة أمام مطاعم "المشوي" وباعة خبز الطابونة، ونشعر بالحركة بين قابس وكتّانة لدى باعة الحنّاء والأواني الفخّارية واللاّقمي والرمّان والتمر عند مرور الليبيين. وحين نقوم بجولة في الأسواق اليومية والأسبوعية داخل هذه الجهات نعاين كمية السلع المدعومة (من طرف ليبيا) المعروضة داخل هذه الأسواق - حشيشة وعصير وأواني وأغطية ومفروشات -. هذا إلى جانب الخدمات التي يُقدّمها التونسيون للأشقاء الليبيين والتي تراوح بين الخدمات الصحية والإستشفائية وخدمات المطاعم والنزل والسكن.
طبعا سكّان العاصمة والمدن الساحلية لا يُعاينون بشكل مُباشر آثار هذه الحركة ولا يرون منها إلاّ الجانب السلبي الذي تعمل وسائل الإعلام على إبرازه، فكلّما وقع حادث في شقة مفروشة في أحد الأحياء الراقية إلاّ وتسارعت الأقلام للكتابة والتأويل وتوجيه التهم لليبي الذي يأتي إلى تونس من أجل "العربدة" وكلّما اكتشفت خلية نائمة لتهريب العملة أو ترويج السلاح إلاّ واتجهت السبّابات نحو المعابر الحدودية.
ما يجهله الإعلام التونسي أو يعمل جاهدا على تجاهله هو أنّ ليبيا هي الرئة التي يتنفّس من خلالها أهل الجنوب، أكثر من نصف قرن وجنوبنا يعيش على خيرات ليبيا ويُشارك الأشقّاء الليبيين السلع المدعومة ويتقاسم معهم لقمة العيش. أهل الجنوب تعوّدوا على شاي ليبيا وعصير ليبيا ومفارش ليبيا وأغطية ليبيا و"قصاع" ليبيا و"شقايل" ليبيا و"غناجي" ليبيا و"إيسونس" ليبيا، أهل الجنوب تعوّدوا على رؤية "الجنيه" الليبي أكثر من "الدينار" التونسي…
عقود طويلة وشباب الجنوب تحتضنه أسواق الشغل الليبية وتفتح له منافذ وآفاق بعضها نظامي وبعضها خارج النظام، شباب الجنوب تجاهله المركز وهمّشته دولة المخازنية وجرّمه الإعلام ولا قبلة له غير معبر رأس الجدير أو الذهيبة، شباب الجنوب يدفع دمه للدفاع عن العرض والأرض وفي المُقابل تواجهه الدولة باللاّ إعتراف والتجاهل.
التهريب والإرهاب وتبييض الأموال كلمات مكرورة نلوكها وندوّرها وحين تُثقلنا مرارتها نتقيؤها في وجه الجنوب ملوّحين بثوب عليه دم، يدّع البعض أنّه دم "عثمان" ويزعم البعض الآخر أنّه دم "الحسين".
معركة بدأت في السقيفة ثمّ تمدّدت وتشعّبت وتشيّعت وتحزّبت، حوّلت الأرض إلى مُربّعات من الجحيم والمربّعات تدوّرت من شدّة الصهد والدوائر نبتت لها زوايا مُنكسرة والزوايا المُنكسرة باتت أجنحتنا التي تأبى أن تحلّق بنا، وإن صادف وحلّقت سقطنا سريعا خلف هذا المعبر أو ذاك.
افتحوا المعابر وأوقفوا جحيم الأرض قبل أن تحرق الأخضر واليابس.