أهو‭ ‬حقا‭ ‬صراع‭ ‬سرديات‭ ‬أم‭ ‬عبث‭ ‬بالهويات‭!

Photo

حقا‭ ‬صراعُ‭ ‬سردياتٍ‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬انفجر‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬عبث‭ ‬بالهويّات‭ ‬يغذّي‭ ‬صراعاً‭ ‬شرساً‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬والمال‭ ‬والنفوذ‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬الغرب‭ ‬طوال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬عن‭ ‬التفكر‭ ‬في‭ ‬خرائطه‭ ‬وشعوبه‭ ‬ومآلاته،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬حسم‭ ‬صراعه‭ ‬مع‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬بهزيمتها،‭ ‬وآلت‭ ‬إليه‭ ‬“تركة”‭ ‬الرجل‭ ‬المريض‭.‬

هذا‭ ‬كان‭ ‬قبل‭ ‬مئة‭ ‬عام‭ ‬تبدلت‭ ‬خلالها‭ ‬أحوال‭ ‬ونهضت‭ ‬من‭ ‬دودة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬المتفسخة‭ ‬فراشةُ‭ ‬تركيا‭ ‬الحديثة،‭ ‬وقد‭ ‬انفصلتْ‭ ‬عنها‭ ‬ونهضتْ‭ ‬شعوبٌ‭ ‬وكياناتٌ‭ ‬عربية‭ ‬وغيرها،‭ ‬على‭ ‬قوس‭ ‬جغرافي‭ ‬احتشدت‭ ‬فيه‭ ‬أممٌ‭ ‬وهويّاتٌ‭ ‬وأديانٌ‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬تصارعت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬وتحاورت‭ ‬وتلاقت‭ ‬وتزاوجت‭ ‬لقرون،‭ ‬قسراً‭ ‬ورضى،‭ ‬ثم‭ ‬تفككتْ‭ ‬مع‭ ‬تفكك‭ ‬الكيان‭ ‬العثماني،‭ ‬وأخذت‭ ‬تفتش‭ ‬عن‭ ‬ذواتها‭.‬

هذا‭ ‬كلام‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬لكن‭ ‬ظلاله‭ ‬المديدة‭ ‬تملأ‭ ‬الحاضرَ‭ ‬بعمرانه‭ ‬وأنقاضه‭ ‬أيضاً،‭ ‬وتخيّم‭ ‬على‭ ‬النفوس،‭ ‬أفراداً‭ ‬وجماعات،‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬رجعت‭ ‬تتدفق‭ ‬فيه،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أنهارِ‭ ‬جنّاته،‭ ‬أنهارٌ‭ ‬من‭ ‬الدم‭.‬

ليست‭ ‬قصة‭ ‬خرافية،‭ ‬ولكنها‭ ‬وقائع‭ ‬معاصرة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تكشفُ‭ ‬عن‭ ‬وجه‭ ‬خرافي‭ ‬للعالم،‭ ‬وجه‭ ‬يعيد‭ ‬إلى‭ ‬أذهان‭ ‬أبناء‭ ‬عصرنا‭ ‬صورا‭ ‬تحاكي‭ ‬أبشع‭ ‬ما‭ ‬أنتجت‭ ‬المخيلة‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬أساطير‭ ‬الأولين؛‭ ‬عراقيين،‭ ‬ومصريين،‭ ‬وأغارقة،‭ ‬وسوريين،‭ ‬وعرباً،‭ ‬وفُرساً،‭ ‬ومُغُلا،‭ ‬وغيرهم‭ ‬يتحدّرون‭ ‬من‭ ‬أمم‭ ‬الشمال،‭ ‬وجميعهم‭ ‬مقبل‭ ‬على‭ ‬الشرق‭ ‬بالقوارب‭ ‬والسفن‭ ‬والشعلات‭ ‬وعلى‭ ‬ظهور‭ ‬الأفراس‭ ‬والبغال‭ ‬المدججة‭ ‬بالأسلحة‭ ‬والصلبان‭.‬ هي،‭ ‬أيضاً،‭ ‬قصة‭ ‬قديمة‭ ‬تجدّد‭ ‬نفسها‭ ‬بأن‭ ‬تملأ‭ ‬العالم‭ ‬بخرافات‭ ‬جديدة‭.‬

ولكن‭ ‬لماذا‭ ‬تريد‭ ‬نخبنا‭ ‬المماريةُ‭ ‬من‭ ‬شعوبنا‭ ‬المطوّقة‭ ‬بالنيران،‭ ‬اليومَ،‭ ‬أن‭ ‬تهملَ‭ ‬العلاقةَ‭ ‬بين‭ ‬الأسباب‭ ‬والنتائج؟‭ ‬لماذا‭ ‬ترغب‭ ‬هذه‭ ‬النخب‭ ‬في‭ ‬القَطْع‭ ‬بين‭ ‬اليوم‭ ‬والأمس،‭ ‬وديدنها‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬غامضة‭ ‬لا‭ ‬سياق‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الماضي‭. ‬ولربما‭ ‬رأى‭ ‬بعضنا‭ ‬في‭ ‬حاضرنا‭ ‬قصةً‭ ‬ورديّةً،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كان‭ ‬الأكثر‭ ‬دموية‭ ‬في‭ ‬التاريخ؛‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬حربان‭ ‬عظميان،‭ ‬قُدّم‭ ‬على‭ ‬مذبحهما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬مليون‭ ‬أضحية‭ ‬بشرية،‭ ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬ضحايا‭ ‬الحروب‭ ‬والثورات‭ ‬الأخرى‭. ‬وابْتُكرت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬واستُعملت‭ ‬أسلحةٌ‭ ‬فتاكةٌ‭ ‬لا‭ ‬قبل‭ ‬للبشر‭ ‬بها؛‭ ‬جرثوميّة،‭ ‬وغازيّة،‭ ‬ونوويّة‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬حصة‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬الأضاحي‭ ‬البشرية‭ ‬بقليلة،‭ ‬فقد‭ ‬قاتل‭ ‬العرب‭ ‬وقُتلوا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المواقع‭ ‬التي‭ ‬حاربت‭ ‬فيها‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬في‭ ‬ثلاث‭ ‬قارات،‭ ‬وعلى‭ ‬رقعة‭ ‬امتدت‭ ‬من‭ ‬حدود‭ ‬روسيا‭ ‬إلى‭ ‬شرق‭ ‬أفريقيا‭ ‬وشمالها‭.‬

كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لعرب‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬يتجاهلوا‭ ‬أن‭ ‬جزءاً‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬جسدهم‭ ‬الحيّ،‭ ‬وأنهم‭ ‬عندما‭ ‬أوهمهم‭ ‬العالم‭ ‬أنه‭ ‬قبل‭ ‬بهم‭ ‬أمةً‭ ‬في‭ ‬شعوبٍ‭ ‬وكيانات‭ ‬ولها‭ ‬كيان‭ ‬رمزيٌّ‭ ‬جامعٌ،‭ ‬عاد‭ ‬يُعمل‭ ‬فيهم‭ ‬تفكيكاً،‭ ‬مستغلا‭ ‬تلك‭ ‬التناقضات‭ ‬الثقافية‭ ‬والسياسية‭ ‬والعرقية‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬وجوارهم‭ ‬الحضاري‭.‬

***

لا‭ ‬يجدر‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نهمل‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬ويحدث‭ ‬من‭ ‬وقائع‭ ‬وتحوّلات‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أبعد‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى،‭ ‬إنما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬نهض‭ ‬فيه‭ ‬كيان‭ ‬سياسي‭ ‬جديد‭ ‬لأمّة‭ ‬تطلب‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬ثأرا‭ ‬هي‭ ‬الأمّة‭ ‬الفارسية،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬قوم‭ ‬لم‭ ‬يخمد‭ ‬فيهم‭ ‬لهب‭ ‬الماضي،‭ ‬انضووا،‭ ‬لقرون،‭ ‬تحت‭ ‬راية‭ ‬الإسلام،‭ ‬ومازالوا،‭ ‬لكن‭ ‬قلقهم‭ ‬الهويّاتي‭ ‬ظل‭ ‬ينازعهم‭ ‬في‭ ‬هويَّتهم‭ ‬المكتسبة‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬وحقيقتهم‭ ‬الحضارية‭ ‬القديمة،‭ ‬وقد‭ ‬أورثتهم‭ ‬هزيمتهم‭ ‬العسكرية‭ ‬والدينية‭ ‬أمام‭ ‬العرب‭ ‬وخضوعهم‭ ‬للدِّين‭ ‬العربي‭ ‬جرحاً‭ ‬نرجسياً‭ ‬لم‭ ‬تشفهم‭ ‬منه‭ ‬إقامتُهم‭ ‬المديدةُ‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬وها‭ ‬قد‭ ‬شبت‭ ‬فيهم،‭ ‬اليوم،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬نارُ‭ ‬صراعٍ‭ ‬مرير‭ ‬متجدّد‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬القوميات‭ ‬الأخرى‭ ‬المتساكنة‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬الإيرانية‭ ‬تحت‭ ‬علمين،‭ ‬أولا‭: ‬علم‭ ‬الشاهنشاهية‭ ‬الفارسية‭ ‬وقد‭ ‬أخضعتهم‭ ‬سياسيا‭ ‬وثقافياً،‭ ‬وثانياً‭: ‬علم‭ ‬الثورة‭ ‬الخمينية،‭ ‬التي‭ ‬أسست‭ ‬لإمبراطورية‭ ‬إسلامية‭ ‬هجينة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬عنصرين‭ ‬متعاديين‭ ‬قومي‭ ‬وديني،‭ ‬واصلت‭ ‬إخضاع‭ ‬الأقوام‭ ‬غير‭ ‬الفارسية،‭ ‬وحرمتهم‭ ‬من‭ ‬حقوقهم‭ ‬الثقافية‭ ‬تماما‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬هيمنة‭ ‬لغوية‭ ‬مقصَّبة‭ ‬بقشرة‭ ‬الدين‭ ‬البراقة‭. ‬وهذه‭ ‬لوحدها‭ ‬قصة‭ ‬غريبة‭ ‬لكيان‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬نوازع‭ ‬متصارعة‭ ‬يهيمن‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬العناصر‭ ‬القومية‭ ‬الأخرى‭ ‬المكوِّنة‭ ‬للنسيج‭ ‬المجتمعي،‭ ‬من‭ ‬عرب‭ ‬وآذريين‭ ‬وكرد‭ ‬ولوريين‭ ‬وبلوش‭ ‬وغيرهم،‭ ‬عنصرٌ‭ ‬مكبوح‭ ‬كبحاً‭ ‬عنيفاً،‭ ‬ومحتقن،‭ ‬تاريخياً،‭ ‬هو‭ ‬العنصر‭ ‬الفارسي،‭ ‬بوصفه‭ ‬-كما‭ ‬برهنت‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية-‭ ‬كياناً‭ ‬لا‭ ‬قبل‭ ‬له‭ ‬بالتعايش‭ ‬مع‭ ‬جواره‭ ‬الحضاري‭ ‬من‭ ‬عرب‭ ‬وترك‭ ‬وغيرهم‭ ‬إلا‭ ‬بالتّنافس‭ ‬العميق‭ ‬وبطلب‭ ‬الصراع‭.‬

أما‭ ‬وقد‭ ‬استيقظ،‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الخلفية‭ ‬المعقدة،‭ ‬“الرجل‭ ‬التركي‭ ‬المريض”‭ ‬وقد‭ ‬برأ‭ ‬من‭ ‬جروح‭ ‬الماضي،‭ ‬اللهم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬جرحه‭ ‬النرجسي‭ ‬النائم،‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬يعزز‭ ‬حضوره‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الغرب،‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬انتزاع‭ ‬موقع‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬يكافئ‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬وجود‭ ‬مستحق‭ ‬بين‭ ‬الأمم‭ ‬القوية،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬القفل‭ ‬الذي‭ ‬ضرب‭ ‬على‭ ‬“صندوق‭ ‬الشرور”‭ ‬قبل‭ ‬مئة‭ ‬عام،‭ ‬وخلخله‭ ‬العواء‭ ‬الكتيم‭ ‬للغريزة‭ ‬الفارسية‭ ‬الطالبة‭ ‬ثأرا‭ ‬قومياً‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬مقنعا‭ ‬بـ”الشيعية‭ ‬الحديثة”،‭ ‬قد‭ ‬سقط،‭ ‬وأن‭ ‬عصراً‭ ‬جديداً‭ ‬من‭ ‬العجائب‭ ‬المصحوبة‭ ‬بالفظائع‭ ‬سوف‭ ‬يطل‭ ‬برأسه،‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬لن‭ ‬يبقى‭ ‬فيه‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬حاله‭.‬

والسؤال‭ ‬الآن،‭ ‬أين‭ ‬هم‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العلامات‭ ‬والإشارات‭ ‬المشؤومة؟‭ ‬أين‭ ‬هم‭ ‬أصحاب‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بناة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬التي‭ ‬مشت‭ ‬الخيول‭ ‬والجمال‭ ‬تحت‭ ‬سحابتها‭ ‬وعلى‭ ‬متونها‭ ‬وصهواتها‭ ‬مخطوطات‭ ‬العلوم‭ ‬وثمرات‭ ‬الحضارة‭ ‬من‭ ‬دمشق‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬ومن‭ ‬دمشق‭ ‬إلى‭ ‬الأندلس؟‭ ‬أين‭ ‬هم‭ ‬سراة‭ ‬العرب؛‭ ‬أين‭ ‬هو‭ ‬النسل‭ ‬المتحدّر‭ ‬من‭ ‬صلب‭ ‬بناة‭ ‬المشروع‭ ‬الحضاري‭ ‬العربي؟

هل‭ ‬هم‭ ‬موجودون‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬المواقع‭ ‬التي‭ ‬مرّت‭ ‬فيها‭ ‬سكاكين‭ ‬الثأر‭ ‬على‭ ‬أعناق‭ ‬أحفاد‭ ‬الأمويين‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬وأريافها،‭ ‬وحلب‭ ‬وأريافها،‭ ‬وحمص‭ ‬وأريافها،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬حوران‭ ‬وسهولها‭ ‬التي‭ ‬هلكت‭ ‬فيها‭ ‬منذ‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬جيوش‭ ‬الغزاة؟

أين‭ ‬هم‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬أصوات‭ ‬الرعاع‭ ‬من‭ ‬لبابنة‭ ‬إيران‭ ‬وعراقيي‭ ‬فارس‭ ‬وأفغانهم‭ ‬وفيلييهم‭ ‬وهزارتهم‭ ‬واللور‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬أمكن‭ ‬تجنيده‭ ‬من‭ ‬الدهماء‭ ‬بمال‭ ‬قليل،‭ ‬ليعيثوا‭ ‬في‭ ‬حواضر‭ ‬الشام‭ ‬فساداً‭ ‬ويعملوا‭ ‬القتل‭ ‬في‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬الثائرين‭ ‬على‭ ‬الاستبداد،‭ ‬وقد‭ ‬رفعوا‭ ‬عقيرتهم‭ ‬بالشتم‭ ‬والسباب‭ ‬واللعن‭ ‬لفاتحي‭ ‬الشام‭ ‬والعراق‭ ‬وقادتهما‭ ‬عمر‭ ‬وخالد‭ ‬وصلاح‭ ‬الدين،‭ ‬مصحوبين‭ ‬بمسلحين‭ ‬قرويين‭ ‬نزلوا‭ ‬من‭ ‬كهوف‭ ‬الساحل‭ ‬السوري‭ ‬وقد‭ ‬لعب‭ ‬الطاغية‭ ‬بعقولهم‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وجعلهم‭ ‬أدلاّء‭ ‬للغزاة‭.‬

أين‭ ‬هم‭ ‬العرب؟‭ ‬هل‭ ‬هم‭ ‬موجودون‭ ‬في‭ ‬ظلال‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬الظلال‭ ‬الراشحة‭ ‬دماً‭ ‬للمآذن‭ ‬المكسورة‭ ‬تحت‭ ‬صرخات‭: ‬“يا‭ ‬حسين”،‭ ‬و”لن‭ ‬تسبى‭ ‬زينب‭ ‬مرتين”،‭ ‬من‭ ‬مئذنة‭ ‬الجامع‭ ‬الأموي‭ ‬في‭ ‬حلب،‭ ‬إلى‭ ‬مئذنة‭ ‬الجامع‭ ‬العمري‭ ‬في‭ ‬درعا‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬موجودة‭ ‬اليوم؟

أين‭ ‬هم‭ ‬العرب؟‭ ‬وهل‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬لكبح‭ ‬شهوة‭ ‬الغزاة‭ ‬من‭ ‬فرس‭ ‬وغيرهم،‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬جزيرة‭ ‬العرب،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬تعريف‭ ‬جديد‭ ‬للهوية‭ ‬يُخرجُ‭ ‬العربَ‭ ‬من‭ ‬كهف‭ ‬الدم‭ ‬والظلام‭ ‬إلى‭ ‬دنيا‭ ‬النور،‭ ‬ومن‭ ‬أوهام‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬دروب‭ ‬المستقبل‭.‬

في‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬سلف‭ ‬من‭ ‬عجائب‭ ‬الحاضر‭ ‬نقرأ‭ ‬الوعيد‭ ‬الذي‭ ‬أطلقه‭ ‬عباس‭ ‬عراقجي‭ ‬باسم‭ ‬السيد‭ ‬روحاني‭ ‬ضد‭ ‬شركائه‭ ‬الافتراضيين‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬إثر‭ ‬الهزيمة‭ ‬المذلَّة‭ ‬التي‭ ‬مُني‭ ‬بها‭ ‬حضوره‭ ‬في‭ ‬المؤتمر‭ ‬الإسلامي‭:‬

“ستندمون‭ ‬على‭ ‬فعلتكم‭!‬”‭.‬

ولكن،‭ ‬أهو‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬صوت‭ ‬النزق‭ ‬القومي‭ ‬الجريح‭ ‬للإمبراطورية‭ ‬المهانة‭ ‬في‭ ‬استعلائيته‭ ‬وعدوانيته،‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬من‭ ‬عرب‭ ‬طفح‭ ‬بهم‭ ‬الكيل‭ ‬وشرعوا‭ ‬في‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬العبث‭ ‬القومي‭ ‬الفارسي‭ ‬ببلادهم‭ ‬وكياناتهم‭ ‬ومصيرهم‭ ‬الوجودي،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬نسمعه‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬صلف‭ ‬بلسان‭ ‬فارسي؟

***

إنما‭ ‬السؤال،‭ ‬الآن،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬جوهر‭ ‬المسألة‭: ‬الترك‭ ‬والفرس‭ ‬ومعهما‭ ‬شريكهما‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬يعرفون‭ ‬ماذا‭ ‬يريدون،‭ ‬ولكلّ‭ ‬منهم‭ ‬مشروعه‭ ‬الحاضر‭ ‬ورؤيته‭ ‬للمستقبل،‭ ‬وعلاقاته‭ ‬مع‭ ‬هاتين‭ ‬الهويَّتين،‭ ‬ولديه‭ ‬تعريفات‭ ‬لهويَّته‭ ‬تتأسس‭ ‬على‭ ‬سرديَّته،‭ ‬وداخل‭ ‬تلك‭ ‬السرديَّة‭ ‬يوجد‭ ‬العرب‭ ‬ولهم‭ ‬صورة،‭ ‬وأحيانا‭ ‬صور‭. ‬وغرفة‭ ‬المرايا‭ ‬بأضلاعها‭ ‬الثلاثة‭ ‬تتبارى‭ ‬فيها‭ ‬الصور‭ ‬في‭ ‬تهشيم‭ ‬وتغييب‭ ‬وجه‭ ‬العرب‭. ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬يريد‭ ‬الأخيرون؟‭ ‬وكيف‭ ‬يريدون‭ ‬ما‭ ‬يريدون؟

هذا‭ ‬هو‭ ‬السؤال‭.‬

وبإزاء‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬تنهض‭ ‬الأسئلة‭ ‬الأخرى،‭ ‬ومعها‭ ‬سؤال‭ ‬الهوية،‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬اليوم‭ ‬بطريقة‭ ‬يستجاب‭ ‬معها‭ ‬للتعريفات‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬طفت‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الأدبيات‭ ‬الكولونيالية‭ ‬مع‭ ‬رواج‭ ‬مشروعات‭ ‬“شركة‭ ‬الهند‭ ‬الشرقية”‭ ‬ومعها‭ ‬مصطلحات‭ ‬مفكريها‭ ‬الاستعماريين‭ ‬ومفاهيمهم‭ ‬الإثنوغرافية‭ ‬عن‭ ‬شعوب‭ ‬الشرق‭. ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬تقعيد‭ ‬تعريف‭ ‬الهويَّة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مفهوم‭ ‬الأقلية‭ ‬والأكثرية‭ ‬الاستعماري،‭ ‬إنما‭ ‬القصد‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬خلق‭ ‬تشويش‭ ‬في‭ ‬الأذهان‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لتداعياته‭ ‬الانشطارية‭. ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬استعمال‭ ‬لهذا‭ ‬المفهوم‭ ‬إنما‭ ‬يكشف،‭ ‬بالضرورة،‭ ‬عن‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الانصياع‭ ‬للمفهومات‭ ‬الموروثة‭ ‬من‭ ‬عهود‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬الشرق،‭ ‬وما‭ ‬حفل‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬من‭ ‬عناوين‭ ‬منها،‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬ما‭ ‬سمّي‭ ‬بـ”المسألة‭ ‬الشرقية”‭ ‬و”تركة‭ ‬الرجل‭ ‬المريض”‭ ‬وغيرهما‭. ‬والتاريخ‭ ‬كتب‭ ‬لنا‭ ‬أدوار‭ ‬القناصل‭ ‬الغربيين‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬دول‭ ‬الطوائف‭ ‬ونموذجها‭ ‬الأكمل‭ ‬لبنان‭ ‬البلد‭ ‬المريض‭ ‬بطوائفه‭ ‬مرضاً‭ ‬لا‭ ‬شفاء‭ ‬منه‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬أُنتج‭ ‬مفهوم‭ ‬الأقلية‭ ‬الخائفة‭ ‬من‭ ‬أكثرية‭ ‬مخيفة‭ ‬و”حماية‭ ‬الأقليات”‭ ‬وغيره‭.‬

ولا‭ ‬ينطبق‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬في‭ ‬نظرنا،‭ ‬على‭ ‬التجارب‭ ‬المجتمعية‭ ‬الأكثر‭ ‬وزنا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬العراق‭ ‬سوريا،‭ ‬مصر‭. ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬ففي‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬أمكن‭ ‬لنخبة‭ ‬عسكرية‭ ‬تنتمي،‭ ‬غالباً،‭ ‬إلى‭ ‬طائفة‭ ‬قليلة‭ ‬العدد‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬أن‭ ‬تحكم‭ ‬الأمّة‭ ‬السورية‭ ‬كلها‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ ‬أيديولوجي‭ ‬قومي‭ ‬مراوغ‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬“أمّة‭ ‬عربية‭ ‬واحدة‭ ‬ذات‭ ‬رسالة‭ ‬خالدة”،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬فرّغته‭ ‬ممارساتها‭ ‬القمعية‭ ‬من‭ ‬محتواه،‭ ‬تماماً،‭ ‬وعلى‭ ‬مدار‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬أمكنها‭ ‬أن‭ ‬تطحن‭ ‬الأكثرية‭ ‬المجتمعية‭ ‬طحنا‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬لهذه‭ ‬الأكثرية‭ ‬من‭ ‬كيان‭ ‬تلوذ‭ ‬به‭ ‬سوى‭ ‬الماضي‭ ‬المتوهَّم،‭ ‬ولم‭ ‬يتبقّ‭ ‬من‭ ‬المشهد‭ ‬السوري‭ ‬خلال‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬سوى‭ ‬مشهد‭: ‬العسكر‭ ‬والحظيرة‭ ‬والرعاع‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬القاتلة‭. ‬أما‭ ‬الناس‭ ‬ففي‭ ‬ظلام‭ ‬الكهف‭.‬

***

لا‭ ‬خلاص‭ ‬للعرب‭ ‬من‭ ‬حلقة‭ ‬الضباع‭ ‬التي‭ ‬أحاطت‭ ‬بهم‭ ‬وراحت‭ ‬أنيابها‭ ‬تعمل‭ ‬النهش‭ ‬بجسدهم،‭ ‬ولا‭ ‬خروج‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬الجحيم‭ ‬الذي‭ ‬رماهم‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬أتونه،‭ ‬إلا‭ ‬بعروة‭ ‬عربية‭ ‬جديدة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬الأوهام،‭ ‬يُمكِّنهم‭ ‬منها‭ ‬مشروعٌ‭ ‬جديدٌ‭ ‬يتيح‭ ‬للعقل‭ ‬العربي‭ ‬تحرير‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬أوهام‭ ‬الماضي‭ ‬وآلام‭ ‬الحاضر،‭ ‬ويجعلهم‭ ‬أقرب‭ ‬من‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬سجيتها‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وأكثر‭ ‬استعداداً،‭ ‬بالتالي،‭ ‬للخوض‭ ‬في‭ ‬شراكات‭ ‬عقلانية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المصالح‮ ‬‭ ‬المشتركة،‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مشروعات‭ ‬واقعية‭ ‬خلاقة‭ ‬تتيح‭ ‬لهم‭ ‬اللقاء‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الفكرة‭ ‬المشتركة‭ ‬والأفكار‭ ‬المختلفة،‭ ‬لتحقيق‭ ‬تطلعات‭ ‬تستجيب‭ ‬لتحديات‭ ‬حضارية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيقها‭ ‬دون‭ ‬القطع‭ ‬مع‭ ‬أحلام‭ ‬اليقظة‭ ‬الماضوية،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬إليها‭ ‬أيضا‭ ‬دون‭ ‬الحلم‭ ‬بالمستقبل‭.‬


نوري الجراح:شاعر من سوريا مقيم في لندن

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات