لن تُذكر للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد حسناته. سيُقال بدهشة “وهل كانت للرجل حسنات؟”.
كان الأسد حاكما مستبدا، صنع نظاما شموليا، تبدأ علاقته بالمجتمع بالمعالجات الأمنية لتنتهي بكل أشكال القمع الممنهج وهو ما أضفى على تاريخ سوريا المعاصر شيئا من الكآبة التي لم يخفف من عتمتها صعود ابنه الشاب إلى سدة الحكم. بل إن ذلك الصعود كان سببا مضافا للغلو في اليأس.
فمع بشار أنجز الحزب حلم الرجل المستبد في أن يظل اسمه ملتصقا بسوريا إلى الأبد. وحين تبين أن الشعب لم يعد يقوى على تحمل فكرة تجريده المستمر من الكرامة في ظل هيمنة فلسفة الحكم التي ورثها الابن عن الأب، لم يجد صبيان الحارة الأسدية بداً من المفاضلة بين كفتي الميزان الذي كان الأسد الأب قد صنعه بما يلائم وزنه التاريخي المفترض، فصاروا يرددون وهم في حالة هذيان لا علاج لها “إما الأسد أو نحرق البلد”، وهو ما يكشف عن روح المغالاة في إذلال الوطن قبل المواطن.
لقد انفجر الخزان السوري بطريقة لم تسمح لسوريا نفسها بالنجاة، وطنا تتفق الأطراف المختلفة كافة على ضرورة أن يكون في منأى عن الخلافات السياسية. بل إن تلك الأطراف أجمعت على تدمير سوريا إن لم تسوّ خلافاتها. ولم تكن التسوية لتقوم إلا على حطام أسطورة الوطن.
فالمعارضون أحرقوا البلد لأن الأسد الابن ظل مصرا على عدم الرحيل من السلطة تلبية لمطالبهم، فيما لم يرَ الموالون سبيلا لرفض تلك المطالب إلا بالتهديد بحرق البلد.
في كلا الحالتين كان مقررا أن سوريا هي التي عليها أن تدفع الثمن. ولكن مَن قرر ذلك؟
سيُقال بشكل تبسيطي أن حافظ الأسد هو الذي قرر ذلك.
الزعيم المستبد لا يحكم فقط من تحت قبره، بل له القدرة أيضا على صنع المزاج الشعبي الذي يتحكم في مصير البلد، ما يعني أن إرادة الرجل المستبد وهو ميت لا تزال أقوى من إرادة الشعب الذي حكمه ثلاثين سنة. وهو ما يعد نوعا من السخرية المريرة التي تنطوي على قدر هائل من إهانة الشعب والاستخفاف به، الأمر الذي لا يستحقه أي شعب في التاريخ.
ليس من الإنصاف أن يعفى نظام شمولي مثل النظام السوري من مسؤولية تدمير الوعي لدى فئات كثيرة من المجتمع من خلال إشاعة وتغليب الروح القطيعية وإخضاعها عن طريق التلقين للغته التي لا تجد معنى للوطن من غير القيادة التاريخية.
أمر لا ينكره حتى مناصرو النظام ومروجو بضاعته الدعائية.
غير أن من الإنصاف أيضا ألا يعفى المجتمع من مسؤوليته عما انتهت إليه علاقة السوري بوطنه في ظل غياب الثقة بوطن باق، يضم الجميع كما هو حال سوريا دائما في التاريخ.
فإذا كنا نفهم دوافع الفريق الذي ينادي بحرق البلد في حالة رحيل الأسد، فإن دوافع الفريق الذي ينادي بحرق البلد في حالة بقاء الأسد لن تكون مفهومة، إلا إذا اعتبرنا أن الفريقين قد أصيبا بداء “الأسد” الذي لا علاج له إلا من خلال حرق سوريا.
كانت الحرب المدمرة التي عصفت بسوريا (ولا تزال) سباقا تنافست من خلاله الأطراف المشاركة على الفوز بلقب مشعل الحرائق الأكبر وكانت سوريا وشعبها مادتَيْ تلك الحرائق.
أما كان زكريا تامر محقا حين أصدر في سبعينات القـرن الماضي كتابا بعنوان “دمشق الحرائق”؟ قد يحمّل تامر وهو من موقعه المعارض اليوم النظام مسؤولية تلك الحرائق بشكل كامل، ولكن الحقيقة ليست كذلك تماما.
فاروق يوسف :كاتب عراقي