كلّ تعامل مع أحداث محافظة قبلي، جنوب غرب تونس، بمنطق إحصائيّ للضحايا يحاول تصوير المشهد الدمويّ باعتباره حدثا عابرا، لا تراكميّة فيه ولا رواسب له، هو مسلكية خاطئة ستعيد المأساة في الزمان والمكان التونسيين. وكلّ طرق للأحداث من زاوية ربطها القصري والحصريّ بسيناريو مفترض يحضّر للجزائر من تونس، هو تمثّل قاصر عن استيعاب الواقع وفهم عمقه الاجتماعي والاقتصادي.
محافظة قبلي ليست سوى عيّنة تمثيلية عن الحالة التونسية التي لا تزال تؤثر فيها العلاقات الوشائجية ما قبل الدولة المدنيّة انطلاقا من العصبيّة العروشيّة، وليس انتهاء بـ”الجهويّات” التي لا تزال تمزّق الجغرافيا التونسية بين مناطق داخل زمن التنمية المحلية، وأخرى خارج زمان البناء أصلا.
استحقاق الدولة الوطنية كامن في ترسيخ مبادئ المواطنة وقيم الاشتراك في الوطن الواحد من خلال تعميم العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والتوزيع العادل للثروات وتقديم الخدمة العامّة لجميع المواطنين والمحافظات، ذلك أنّ المواطنة هي نتاج سياسات الدولة الوطنيّة التي تؤصل ارتسامات الاشتراك في الوطن الواحد، عبر التعليم والإعلام والقضاء العادل والاقتصاد التضامني. وكل نكوص للدولة عن هذا الاستحقاق يعيد للعصبيات الوشائجيّة مكانتها لا فقط في تعريف الذات الجماعية، وإنما أيضا في التمايز على الآخر من عروش وقبائل، بشكل تصير فيه تونس فضاء للجماعات العروشيّة والقبائليّة لا دولة فوق الجماعات الطبيعية.
ولئن تميّزت الفترة الأولى من الثورة التونسية باستنبات مظاهر ما قبل الدولة (العصبية القبلية والعروشيّة والجهويّة) نظرا لضعف مؤسسات الدولة، ما سمح للعلاقات التضامنية بالبروز على مشهد الأحداث في البلاد، فإنّ استمرار الهويّات الوشائجيّة في التأثير الاجتماعي إلى حدّ الوصول إلى استعمال السلاح ثأرا واستردادا لـ”كرامة دم” مهدور بعد 4 سنوات من التأصيل الدستوري والاقتراع العام، يؤكد أن الدولة المستقيلة والغائبة عجزت عن تحويل الأفراد إلى مواطنين، وهي أيضا أعجز من تصيير الجماعات إلى مجموعة مواطنيّة.
لا يولد الأفراد مواطنين، فكثير من الأفراد رعايا في أوطانهم، وكثير من الأفراد مواطنون من الدرجة الثانية، وكثير من الأفراد خارج العدالة الإنسانية والكرامة البشريّة في بلدانهم أصلا، ذلك ان سياسات الدولة ومسلكياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاستراتيجية والثقافية واللغوية هي التي تعطي للإنسان صفة المواطن وتجعله فخورا بجواز سفره في الممرات البرية والجوية والبحريّة.
وعندما تتحوّل مقولة “أريد العيش” فقط، لشعار يرفعه اللاجئون السوريون ومن قبلهم اللاجئون الفلسطينيون، وتردّد لدى الكثير من الممحوقين من الشعب التونسي الذين يراودهم “الإرهاب الموصوف” و”أنصاف الإرهابيين” عن كرامتهم وعزّتهم، يدرك المتابع درجة الانحدار التي بلغها الواقع العربي حيث بات الفرد يريد التمتّع بما تتمتّع به بقيّة السوائم من هواء وماء.
والذين يتباكون اليوم على منطقة قبلي حيث باتت العروشيّة مسلّحة وبين مجموعاتها دماء وثأر، لم يتردّدوا في إذكاء نار الجماعات التضامنيّة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة حيث لعب الفاعلون السياسيون على غريزة القبيلة والعشيرة.
“العروشية” ليست فتنة نائمة، بل هي حيّة وموجودة في بعض ألقاب الأفراد التونسيين ومتمركزة بقوّة في خطاب بعض الفاعلين المحليّين، العمد والولاة، ولكنّ الفرق بين الدولة القادرة والدولة المقهورة، أن الأولى تبني سياسات المواطنة التي لا تعرف معنى للجغرافيا القبلية وبالتالي تذوب الذوات الهوياتية في الدولة الوطنية، والثانية تشيد سياساتها وفق مقولة الانتماء القبلي والعروشي، وهو المنطق الذي أسس للمحاصصة الطائفية في لبنان والعراق, والمحاصصة المناطقية في ليبيا وسيؤسس لمفهوم اللادولة في تونس.
يقول الرئيس الباجي قائد السبسي إن تونس اليوم في أمس الحاجة إلى حكومة وحدة وطنية، والأصل أن يقول بأن تونس في حاجة إلى وحدة وطنية قبل الحكومة، فالأولى أصيلة والثانية بديلة.