على عكس ما يذهب إليه اعتقاد الكثيرين، فإن التمييز الإيجابي ضد المرأة ليس في صالحها. فكرة التصنيف لوحدها فكرة إقصائية ومبنية على التفرقة. وسواء ميزنا المرأة إيجابيا أو سلبيا ففي ذلك، برأيي تهميش لها، والتهميش هنا بمعنى وضعها في خانة لوحدها، سواء كانت هذه الخانة لغرض الإبراز أو لغرض الطمس.
الكثير من المواقع والصحف اليوم تخصص نافذة أو قسما للمرأة، معتبرة ذلك لفتة جيدة منها في حق المرأة وقضاياها وحقوقها وإنجازاتها، لكن وبمجرد أن تدخل هذه الأقسام تكتشف أن المواضيع المطروحة، هي الموضة والطبخ والتربية، في تكريس فج للستوريو تايبس، والنظرة النمطية التي تحاول المرأة التخلي عنها بشتى الطرق.
يوم المرأة العالمي، هو في رأيي أيضا شكل من أشكال التمييز ضدها، وبعد أكثر من 70 سنة، لم تحقق هذه المؤتمرات الإنمائية المقرونة بهذا اليوم أي إنجازات تذكر، ويكفي أن ننظر إلى واقع المرأة اليوم في العالم أجمع، وتراجع مكاسبها بسبب الحروب والكوارث والفقر والأزمات.
اعتقد أن منح المرأة حقوقها، يأتي عبر إخراجها من دائرة الاستثناء وإعادتها إلى خانة العام والسائد والعادي. فلا يسلط عليها ضوء ولا يمارس عليها تهميش، ذلك أن الغلبة باختصار هي للسائد، وليس للهامش أيا كان جمال وتفرد هذا الهامش، ومهما كانت أغراض التهميش نبيلة. فتفرعات النهر مهما بلغت من جمال وقوة، إلا أنها لا تتساوى مع النهر وطاقته وقدرته على الحياة والاستمرار والتغيير.
منذ فترة كنت أقطع شارعا في هولندا، حيث أقيم لأكتشف بالصدفة أن إشارة المترجلين الحمراء والخضراء كانت امرأة وليس رجلا، كما تعودنا دائما. هناك أيضا اليوم دعوة قوية للتخلي عن التصنيفات اللونية (الأزرق للولد والبمبي للبنت)، ويٌنظر أيضا في كتب الأطفال المدرسية التي تعودت على ربط صورة المرأة بمنديل المطبخ مثلا. وعكس ما قد نذهب إليه من أن هذه المبادرات بسيطة ولا تقدم شيئا إضافيا للمرأة، إلا أنها في رأيي أكثر أهمية ووقعها ونتائجها على عقلية ومستقبل التفكير، أفضل من مؤتمر ضخم يضم المئات من الوجوه المدافعة عن المرأة كقضية وتنظير. فوجود المرأة في المشهد العام كجزء طبيعي ومتأصل وفي الممارسات اليومية العادية، ودخولها شتى المجالات الميدانية البسيطة منها والمعقدة، نوع من إعادتها إلى العام والسائد، وهو العدل عينه.
ما نلحظه اليوم هو أن ”قضية المرأة” لم تعد قضية دفاع عن حقوق ومطالب ومكاسب ملموسة، بقدر ما هي قضية فكرية أو فنية بالدرجة الأولى، حيث تحولت إلى موضوع أكاديمي تنظيري وجدل فكري وصناعة مستقلة بذاتها، تدير المئات من المؤتمرات والمنظمات والجمعيات والندوات والمواقع، وبرأس مال ضخم أغلبه من مساعدات التعاون التنموي، وصناديق الدعم الدولي.
الماكينة الدولية لصناعة “المرأة” لم تنتج في النهاية امرأة سوية بمواصفات حداثية، متساوية في الحقوق والواجبات مع الرجل، ولم تنتج امرأة تشعر وتتصرف بوصفها “السائد” و”العادي” بقدر ما أنتجت امرأة تدور حول نفسها وقضاياها، وتتعامل مع وجودها على أنه منقوص، ويحتاج إلى جهد جبار منها لبلوغ مستوى السطح، الذي هو في الحقيقة ليس أكثر ولا أقل من مستوى العادي.
يجب كسر هذه الصناعة التي تعود بالفائدة والمرابيح على جميع من هم قائمون عليها، ما عدا المرأة، كما تجب إعادة المرأة إلى مكانها داخل “الكل”، بوصفها جزءا أصيلا لا يقبل التمييز بشقيه.