كنت أعتقد أن التجاذبات السياسية والإيديولوجية متدنية جدا في عاصمة نفزاوة، قبلي، بل تكاد لا توجد أو بالأحرى لا تسفر عن وجهها. كان الجميع من مختلف الانتماءات السياسية والإيديولوجية يلتقون أينما اتفق يتناقشون في السياسة وفي الثقافة والأدب والفلسفة والإيديولوجيا والشعر، ويتمازحون، ويتزاورون في الأفراح والأتراح والأعياد ومختلف المناسبات الخ.
وحتى في فترة الصراع اليوسفي البورقيبي لم يحدث صدام بين أنصار الرجلين في قبلي. وبقي اليوسفيون إلى آخر حياتهم يحظون بالاعتبار والتقدير من الجميع. هذا التعايش استمر فيما بعد في العلاقة بين اليساريين والإسلاميين والقوميين في السبعينات والثمانينات. في دار الشعب ونادي الفكر والرابطة والنقابات، في المحاضرات والأمسيات الشعرية. في المقاهي أو تحت هذه الكالاتوسة أو تلك في ساحة الاستقلال. احترام متبادل.
جو ربما كان يبدو غريبا أو مستحيلا في مناطق أخرى. كما لو أنه خاصية الحياة في الواحات، حيث تقتضي الضرورة ذلك كما تقتضي تقاسم الماء بالقادوس، ولا يعتدي أحد على أحد. كذلك التغلب على الصحراء يتطلب من الجميع التعاون من أجل أن يعيشوا.
الأمر لم يكن فطريا فقط وإنما ساهم في صنعه العديدون من مختلف الانتماءات ومن لا انتماء لهم، الهاشمي بن سوف، العربي بن حمادي، البشير يعقوب، إبراهيم الأسود، الأزهر النعمان، امحمد مرسيط، المنوبي العزابي، علي العزابي، شريفة زريبة، محمد زغدود، عبد الرزاق الكيلاني... أسماء بعضها معروف على مستوى وطني وكلها تعني الشيء الكثير في تاريخ المنطقة.
في الأسبوع الذي قضيته أخيرا في تلك الربوع، اكتشفت أن هذا المشهد قد تغير كثيرا كثيرا. تنافر بين هؤلاء وأولئك في الأجيال الجديدة، انحسار الفضاءات والأنشطة التي يمكن أن تجمع. بمعنى أن الأولوية أصبحت لما هو إيديولوجي وسياسي، وهذا يعني أن العهد النوفمبري لم يمر دون أن يترك أثرا وأثرا عميقا على الميدان وفي سلوكات وممارسات الناشطين السياسيين والثقافيين وغيرهم في نفزاوة، لقد تزودوا بقيمه وأشْرِبوا ثقافته وخضعوا لسياسة فرق تسد، فتفرقوا، وهم يحسبون أن يصنعون شيئا ذا معنى. لينتهي الأمر إلى تصحر عميق.
وهو ما يعني في آخر المطاف الزيادة في ضيق العيش. وهنا كم كان الجيل السابق متفتحا على بعضه البعض، لقد آمنوا بمقتضيات العيش المشترك، وما أفهمه اليوم من ذلك هو أن الذكاء الفطري جعلهم يتبنون ذلك من أجل مقاومة الصحراء والتصحر، من أجل فسحة أكبر لكي يعيشوا جميعا.