لم يكن مضمون الورقة الائتلافية التّي وقّع عليها المشاركون في حوار قرطاج، الأربعاء، بعد ماراثون من النقاشات والحوارات استمرّ أكثر من شهر، يستحق الاحتفاء الكرنفالي ولا الخطابات الجوفاء التي تعبّر عن إفلاس حقيقي في اجتراح الحلول الناجعة، أو على الأقل تسوية الجزء الأهم من المشاكل التي ارتدّ فيها الواقع المحليّ التونسي.
لم يأت اتفاق قرطاج بأيّ جديد سواء في مستوى مبادئ عمل الحكومة القادمة أو على صعيد أولوياتها، بل على العكس من ذلك كانت الورقة اجترارا لأولويات عمل الحكومات المتعاقبة على تونس منذ 2011، وقد لانجانب الصواب إن قلنا بأنّ محاربة الإرهاب والنهوض بالاقتصاد ودعم اللامركزية وإنجاز المشاريع الكبرى شكلت أيضا منظومة عمل كافة حكومات زين العابدين بن علي.
الواضح أنّ الهدف من مبادرة الرئيس الباجي قائد السبسي لم تكن تغيير الحكومة، بقدر ما كانت تهدف إلى تغيير منظومة ائتلاف الحكم وتوسيعه بشكل يشمل مروحة توافقية واسعة في البرلمان ولدى الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين، وعلى رأسهم اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف واتحاد الفلاحين.
نجحت مبادرة السبسي إلى حدّ اللحظة في توسيع الحاضنة السياسيّة للأكثرية من خلال ضمّ أحزاب معارضة برلمانية إلى الرباعيّ الحاكم وهي حركة الشعب (القومية)، وحزب المبادرة والحزب الجمهوري، إضافة إلى أحزاب أخرى غير برلمانية على غرار حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي.
وهذا ما يفضي، في المحصلة، إلى تقليص هامش التحرّك لدى المعارضة السياسيّة من خلال إغلاق مسارين اثنين، الأوّل هو المسار الاجتماعي، والثاني هو التشريعيّ.
ذلك أنّ انخراط اتحاد الشغل، المنظمة النقابية الأكبر والأعرق في تونس، في منظومة اتفاق قرطاج سينزع من أي تحرك للمعارضة الرافعة الاجتماعية الأقوى والقاطرة الأهم لأيّ ضغط على الحكومة المستقبليّة.
أمّا المسار التشريعي فيكمن في إضعاف مفاعيل التحرّك لدى أحزاب المعارضة البرلمانية التي كثيرا ما استخدمت السند القانوني الذي يسمح لها بالطعن في دستورية القوانين المصادق عليها بمجرّد جمع 30 توقيعا على مطلب الطعن، وقد استفادت الجبهة الشعبية ولفيف من المعارضة الاجتماعية البرلمانية (التحالف الديمقراطي) من هذه الفسحة القانونية وأسقطت قوانين مصادق عليها على غرار إسقاط عدّة فصول من قانون المالية لسنة 2016.
ثنائيّة “توسيع الأكثرية وإضعاف الأقليّة” لا يبتغى منها تحقيق الإنقاذ الوطني الشامل عبر تكريس الكتلة التاريخية، وإنّما يراد منها تأمين المستلزمات المحلية الكاملة لتنفيذ شروط الجهات الدولية الدائنة، وأهمها صندوق النقد الدولي الذي قايض الأمن الاجتماعي بقرض قيمته 9.2 مليار دولار ستدفع ما بين 2016 و2019.
ذلك أنّ قنابل موقوتة فخّخ بها صندوق النقد الدولي قرضه لتونس تحت عنوان “الإصلاح الهيكلي” للاقتصاد مضمنّا إجراءات تقوّض السيادة ولا توفّر التنمية، بل ستعمل على استقالة الدولة من القطاع العامّ والدفع نحو الدولة الغائبة واقتصاد الغاب.
ذلك أنّ ديباجات القرض تفرض تقليص كتلة الأجور للقطاع العامّ وتقليص عجز الميزانية من خلال التخلي التدريجي عن الدعم والمزيد من التخفيض في قيمة الدينار وإعادة هيكلة البنوك العمومية وخوصصة الشركات العمومية الرئيسية وهي شركة الكهرباء والغاز وديوان الحبوب وشركة تكرير النفط وشركة التبغ والوقيد والخطوط التونسية.
وكلّها مقدّمات لمنوال اقتصادي اجتماعي مسقط من صندوق النقد الدولي يفضي إلى التأزيم الاجتماعي والاقتصادي والمزيد من الاحتقان السياسي في البلاد بشكل يؤشر على إرهاصات حراك جديد لن يعرف هذه المرة أنصاف التسويات، لأنّه لن يكون أمام نصف سلطة تدير بقايا ميزانيّة متهالكة، بقدر ما ستكون أمامه مؤسسات دولة مستقيلة وحكومة أعجز حتّى عن التسويف والمماطلة.
يراد اليوم خلق توافق واهم ووهمي من ورق، إرضاء للجهات الدولية المانحة من جهة، ولتعميم فشل الرباعي نحو فشل لكافة الطبقة السياسية في البلاد من جهة ثانية.
الحراك القادم خطير، لا لأنّه بعناوين اجتماعية واقتصادية صعبة المنال بعد تفريغ ميزانية الدولة ومصادرة مستقبل الأجيال، وإنما لأنّه سيكون تمرّدا على الطبقة السياسية وعلى العمل السياسي برمته، بعد أن بان بالكاشف ضعف المسؤولية السياسية والاعتبارية لدى القائمين على شؤون البلاد في القصبة وقرطاج، وتلك مصيبة أخرى.