ثقافة قتل الأب

Photo

يرتبط مفهوم “قتل الأب” في الأدب والفن بذهنية التجدد والتجديد التي يتنفس الإبداع من رئتها. إذ، لا إبداع من دون الثورة على تراث أب راسخ، مكرَّس. هذا هو حال مدارس الفن جميعها في القرن العشرين، من الانطباعية إلى التعبيرية إلى السوريالية والدادائية، وغيرها من ثورات ذهنية أعطت للقرن العشرين فرادته وألوانه الفاقعة.

وحين قال الروسي دوستويفسكي قولته الشهيرة “كلنا خرجنا من معطف غوغول” كان يقصد الخروج المادي والمعنوي من تجربة غوغول الآسرة والجميلة، إذ أن البقاء في المعطف يعني في ما يعنيه تكرار التجربة واجترارها، والدوران في فلكها، وبالتالي، موت الإبداع.

ولذلك، ينظر الآن إلى سلفادور دالي وبيكاسو كفنانين مضى زمنهما، رغم العبقرية الفذة التي ميزت تجربتيهما، وثمة مدارس فنية كثيرة ظهرت في الغرب تجاوزت هذين الهرمين الشامخين، والأمر نفسه يمكن أن يقال عن شعراء وروائيي وسينمائيي ومسرحيي وفلاسفة الستينات والسبعينات في العالم الغربي!

في الثقافة العربية المعاصرة، رفض الآباء الاستسلام وترك المنابر للأبناء، وتعايش الأبناء مكرهين مع جثث آبائهم المتحللة، فنشأت ثقافة هجينة، ذات خصوصية لا نجد لها مثيلا في أي ثقافة أخرى، عبرت عن نفسها بثنائية ثقافة المؤسسة، وثقافة الهامش.

ثقافة المؤسسة التي تمثلها اتحادات الكتاب ووزارات الثقافة ومديرياتها. وثقافة الهامش التي يمثلها، جمهور المبدعين الرافضين للوصاية، والمشغولين بمشاريعهم الذاتية، فكان أن تحولوا إلى سلالة معزولة تعيش في دفيئات خاصة داخل المجتمعات العربية، محرومة من التأثر والتأثير!

لم يتخل جل الآباء المؤسسين في العالم العربي عن المؤسسة والمنابر منذ فورة ستينات القرن العشرين التأسيسية، فمن كرسته المؤسسة والأحزاب اليسارية في ذلك الزمن بقي مكرسا، أما الأجيال التي أتت بعد ذلك، وخصوصا جيل السبعينات، فلا يزال غير معترف به حتى اللحظة، والبعض من أبناء هذا الجيل “الملعون” يوصف بالشاعر الشاب رغم بلوغه العقد السادس من العمر.

ذهنية الآباء تتناسل فقط مع جيل ثقافي ارتضى الخضوع لهذا المنطق، فكان هذا الخضوع تذكرة العبور إلى المؤسسة الثقافية، فالآباء هنا يستمرون في الأبناء الحافظين للوصايا، والملتزمين بحرفية النص، والراعين للمقابر والمدافعين عنها.

حين يتعامل الأبناء مع تراث الآباء بتقديس غير قابل للنقد، ينعدم الإبداع، ويكتب على الحياة الثقافية الموت والتلاشي، وحين يصبح الريبورتوار المسرحي استعادة لنصوص جيل الستينات، يكون المسرح قد تحول إلى متحف يفقد فيه وظيفته الأساس في حياة الناس.

تتوهم بعض المؤسسات الثقافية العربية بأن تجديد الثقافة يرتبط برفد المؤسسات بفئات عمرية معينة، بغض النظر عن الإبداع، وهي لا تدري أن التجديد لا يربط بالعمر الفيزيولوجي، بقدر ارتباطه الحتمي مع ذهنية “قتل الأب”، لأن ما يجري، والحال كذلك، توريث، وليس تجديدا، فالوريث هو استمرار للموروث منه. ولذلك، ليس غريبا أن تكثر الثقافة المتحفية في بلاد العرب، فحتى المهرجانات الثقافية، هي ظواهر متحفية، أكثر من كونها، ساحات لخلق مناخات التفاعل بين المبدعين، ولذلك فقدت هذه المهرجانات وظيفتها وتحولت إلى مناسبات لالتقاط الصور ومادة للمحررين الثقافيين.

“قتل الأب” لا يعني الإمعان في الغرابة، والغوص عميقا في الغموض، والسباحة في الطلاسم، كما يتوهم البعض من شعراء وروائيي وتشكيليي ما بعد الحداثة! بل ثمة احتمالات أخرى، يمكن فيها إعادة الاعتبار لجد أو أجداد لم ينالوا حظوظهم في ثقافة الأب السائدة!

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات