
هذه قاعدة تتفرّع جذورها في بيئاتنا الإجتماعية...و كثيرا ما تبرز في المناسبات الكبرى ...في الأفراح و المسرّات و الإحتفالات و حتى في الأتراح...و مفادها أن من يوزِّع اللّحم على المتحلّقين حول قصعة الكسكسي ينظر و يتثبّت في الوجوه لكي يقدّم للوجه قطعة اللّحم التي يراها مناسبة له بعد أن يجسّها بأصابعه... أمّا ذووا الحظوة و المكانة العالية ( رئيس شعبة، عمدة، صاحب مال أو جاه...) فإنّ قطعة اللحم المختارة لهم تنتقى من الأوّل من القدْر...هذا الحال في ربوعنا و في أغلب مناسباتنا...و لكون هذه القاعدة لم تكتفي بالإنتشار فقط مع قطع اللحم المطبوخ، فإنّها وجدت ضالّتها في قدورنا و أوعيتنا النفسيّة و السلوكية و العقليّة و انتشرت على أراضي غير مخصّصة لها أصلا فرأيت هذه القاعدة متأصلة و متفرّعة في تقييماتنا لمختلف الشخوص و الهياكل و المؤسسات و في كلّ المجالات، و لا تتغيّر هذه القاعدة إلاّ لِماما في مجالات محصورة و ضيّقة جدّا....
وما حيّرني حقّا أنّ هذه القاعدة التي تبدو بدائيّة و تعوزها الحوامل القيميّة و الأخلاقيّة و المبدئيّة نجدها منتشرة أكثر و تمتصّ نسغها الخام من التربة القاحلة للأنتلجنسيا التونسيّة ( السياسيّة، الثقافيّة، الأكاديميّة، الإعلاميّة، الإداريّة و حتّى الرياضيّة...) و خاصّة الطبقات التي تعتدّ و تمتهن لسانيّا مقولات التجاوز و التقدميّة و الطلائعيّة..فهي تغرف من معين بدائي بتزويق ثقافوي بحت و استعلائي ترجع أصوله إلى العائلات البرجوازيّة القديمة التي كانت تعيش في دوائر البايات و المقيم العام الفرنسي...
فنخبنا الثقافية و الحقوقيّة و الأكاديميّة و السياسيّة تجدها تقدّم مواقفها و رؤاها و آراءها في الأحداث و الوقائع و المتغيّرات لا على أساس القواعد المبدئيّة و المتجانسة مع مقولاتها ورؤاها النظريّة بل على أساس الوجوه و على أساس الازدواجية في المعايير و التقييمات، فنراها تمارس التطفيف في السرّ و العلن، تبخس الميزان لمن تكره و تزيد فيه لمن تهوى و تشقى ...بمعنى على أساس من معنا ومن ضدّنا [قاعدة بوش..و قاعدة قومجيّة في الجامعة لتحديد الحلفاء زمن احتلال الكويت في التسعينات من قبل صدّام و المتمثّلة هل أنت مع الضمّ ( و المفارقة واقعيّا أنّه ضمّ بالكسر و ليس ضمّ بالضمّ) أم ضدّ الضمّ] و على أساس من يشبهنا ومن لا شبه له معنا و بمعنى شوفيني و ما بعد حداثي رأيناه عند المسترزوق الموازي الذي دمه أحمر و الذي دمه أسود…
فالموقف مثلا من الانتخابات..يختلف حسب استطلاعات الرأي..فإن كانت النتيجة المتوقّعة ستكون من نصيب المع أو من نصيب الأصدقاء و الرفاق أو من نصيب المتشابه (كما يقولون) فالموقف يكون بتمجيد الانتخابات و بكونها الأكثر نزاهة، و لابدّ للجميع من الخضوع لما يفرزه الصندوق...أمّا لو كانت الاستطلاعات غير ذلك فستكون الانتخابات مشكوك فيها قبل أن تقع و ستجد منهم من يهدّد بالنوم في الطريق و قطعه أن حصل ما يُتوقّع، و ستبدأ التهديدات مع ابتزاز بطرح قواعد جديدة (لم تُرى في الفقه السياسي المحيط بل هي من صلب الجهاز التناسلي لعقل مأزوم ينتج فقها سياسيا تونسيّا و مخصيّا) مثل كون شرعية الشارع مقدّمة على شرعية الصندوق و شرعيّة التوافق حتى مع الجزيئات مقدّمة على الشرعيّة الانتخابيّة.. إلخ..
أما الموقف من الممارسات السياسيّة و الأمنيّة... فحدّث و لا حرج...فمثلا الموقف من الإنقلاب في مصر مشروع و قتل الناس بالدبابات في الشوارع وفي الساحات من قبل العسكريتارية العلمانيّة يُغضُّ الطرف عنه و تُقدّم قبلها تصوّرات متخيّلة و ما قبليّة حول ديكتاتوريّة الإخوان التي لم تقع و يصبح عندها قمعهم و قتلهم و سجنهم دفاع عن النفس و ضروري لتقدّم مصر و مشروع وهو خيار لا بدّ منه لتصفية منافس سياسي...و يصبح التعاطف حقوقيا مع آلاف القتلى لا يساوي جناح ألم لشاذ جنسي أو لكلبة قتلت في الطريق...و تصبح أيضا قنابل و براميل و رصاص بشار و روسيا على الأبرياء زهورا يلقيها المقاوم بشار؟ على أرض الكرامة....أمّا المواقف المساندة للمعارضة ( بكلّ شقوقها و منابتها) فهي جرائم في حق الانسانية…
تبرز المفارقة أكثر لدى الأنتلجنسيا المعطوبة في الموقف من أردوغان…فالانقلاب الذي حصد أرواحا بريئة، وهو انقلاب على خيارات الناس بالدبّابة و القنابل و الطائرات، هو حقّ لأنّه سيزيح من الساحة وجها آخر له دم أسود( حسب الجهبذ المسترزق الموازي)…و لأنّ الإنقلاب فشل فالموقف الضروري ليس تداعيات الانقلاب و ما سبّبه من مآسي و دماء و قتل و تحريف ممنهج لمسار شعب و اختياراته…بل سيصبح متماهي مع المواقف الغربية تماما، المتمثّلة بالتنديد بالمعاملات التي يتلقّاها الإنقلابيون…فالانقلابي عندما يسفك دما و يقتل شعبا هذا تقييمه عندهم ضرورة و من شروط الحركة العسكريّة أما محاكمتهم قضائيا مع التشديد (ولو كانت فيها إجحاف و لا تعتمد على المعايير الغربيّة) فهذه هي الجرائم التي يجب التنديد بها في نظرهم و السعي المحموم من أجل إيقافها بشتّى الطرق ( العصا و الجزرة)….بمعنى آخر المطلوب الواجب من المقتول أن يرأف بقاتله و أن يطلب منه العذر و المسامحة لأنّه وقف بجسده ضدّ دبابة قاتله و لأنّه ساهم بدمه لإفشال مخطّط الدماء المطروحة على النموذج السيساني و السيستاني و البشّاري…
وهذا هو بالتحديد الانقلاب و الإزدواجيّة في المعايير أو الباردوكس القيمي، حسب قاعدة عامّة « أخزر للوجوه و فرِّق اللحم» و حسب قاعدة المسترزوق الموازي« أصحاب الدم الأحمر هم الفصيلة الراقية و النبيلة و أصحاب الدم الأسود هم أردأ فصيلة من النوع البشري و الإنساني»…