تونس: بين الشاهد على الفساد والشاهد ضده

Photo

تأمل العالم في أوائل عام 2011 ما أطلق عليه اسم “ثورة الياسمين” في تونس دون أن يخطر ببال أحد أن إضرام محمد البوعزيزي النار بنفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في ذلك البلد سيضرم نيرانا لا تتوقف في كل المنطقة العربية. لا البوعزيزي قصد ذلك، ولا الجموع التي خرجت متضامنة مستنكرة سعت إلى ذلك. فجلّ ما طمح إليه التونسيون هو قليل من الإصلاح وقليل من الحريات وقليل من التدابير لمكافحة الفساد.

“بن علي هرب”؛ يذكر العرب ذلك الهتاف الذي ردده مواطن تونسي ذات ليل ودأبت فضائية عربية على تكرار بثّه. سقط النظام كما أرادت الهتافات. انتظر أهل البلد أن يطلع عليهم صبح آخر يزيل عنهم عتمة الدكتاتورية وعفن الفساد الذي لطالما التصق بمحيط القصر الرئاسي، وخصوصا تلك القصص التي راجت حول آل الطرابلسي القريبين من ليلى زوجة الرئيس زين العابدين بن علي. هناك فقط كان التونسيون يعرفون أن روائح الفساد تتجمع.

بعد خمس سنوات على الحدث لم يعد التونسيون يعرفون أين هو مركز الفساد في تونس. شاعت الظاهرة وبدت وباء معديا يتفشى داخل التركيبات الاجتماعية المتّصلة بالسلطة. تبددت روائح الياسمين التي أوحت بها ثورة التونسيين، وفاح عبق نتن يتسرّب داخل الحركة الاقتصادية للبلاد في جانبها العام أو ذلك التفصيلي المحلي. تعملقت الظاهرة حتى باتت قدرا وجب الإذعان لشروطه، حتى أن رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد وقف أمام البرلمان مستسلما لذلك القدر متهما ضمنا كل النظام السياسي بالتواطؤ فيه معتبرا “أن مكافحة الإرهاب في البلاد أسهل من مكافحة الفساد فيها”.

تُسقط تونس حكومة الصيد. تسقط “أحزاب الياسمين” حكومة الرجل معترفة بفشلها وفشله وحكومته في مواجهة أزمات الاقتصاد والفساد والأمن والاستقرار. يرحل الرجل دون أن يعرف أهل البلاد لماذا ذلك الفشل ومن أفشل الرجل الذي أتت به أحزاب الفعل، وما الذي يضمن نجاح خلفه الذي اختارته نفس الأطراف والتي لا تشي بأنها لن تستخدم معه كما مع سلفه نفس السلوك.

يوسف الشاهد هو رئيس الحكومة السابع منذ إسقاط بن علي، وحكومته هي الثامنة منذ ذلك الوقت. للمراقب أن يعتبر أن تغيير حكومات البلد بمعدل واحدة كل سبعة أشهر يعكس عدم استقرار سياسي ووهن في حكم البلاد. لكن للمراقب أن يستنتج أن الأمر يعبّر أيضا عن حيوية سياسية لا تستكين تمارسها القوى الحزبية والنقابية وجمعيات المجتمع المدني على نحو لا يتيح استقرارا لعلل ويعكس توقا نحو المغامرة في العلاج.

يذهب المتفائلون إلى التعويل على رئيس الحكومة الشاب ذلك أنه ينتمي إلى جيل يعرف شروط العصر ويجيد استخدام أدواته ولم يتلوّث بالملفات التي يختلط داخلها “البزنس” بالسياسة. ويأخذ المعترضون والمتحفظون على الرجل صغر سنه وطراوة عوده في السياسة في وقت تحتاج فيه البلاد إلى شخصية قوية لها باع طويل وخبرة ومراس في هذا المضمار. ويتذكّر المتحفّظون أن الرئيس الباجي قائد السبسي سبق وأن عيّن الشاهد رئيسا للجنة التي أنيط بها حلّ أزمة حزب نداء تونس وفشل في ذلك، متسائلين كيف للرجل الذي أخفق في حلّ أزمة حزب أن ينجح في حل أزمة بلد؟

التقط المعترضون (الجبهة الشعبية خصوصا) أيضا القرابة التي تصل رئيس الحكومة المعيّن برئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ليحذروا من حكم العائلة والتفرد والسهر على مصالح اللوبيات المرتبطة بأهل السلطة. فيما ذهبت أصوات أخرى تحذّر من مساعي التوريث التي يشتبه بأن الرئيس يحضّرها لنجله حافظ.

أطل يوسف الشاهد على أهل تونس رافعا التحدي ضد خمس أولويات: كسب الحرب على الإرهاب، إعلان الحرب على الفساد والفاسدين، الرفع في نسق النمو لخلق الشغل، التحكم في التوازنات المالية، ومسألة النظافة والبيئة. لا تحمل تلك الأولويات جديدا ولا يهم المواطن أن يسمع بتكرار ممل لعناوين أمراض بلده. والمهم هو الوصفات التي ينوي رئيس الحكومة الجديد تطبيقها والتي عجز سلفه عن اجتراحها، لا سيما أن المراقبين يعتبرون أن الداء يكمن في السلوك الحزبي القائم وتواطؤه في تبادل التمريرات على حساب نجاعة العمل الحكومي.

بين نداء تونس وحركة النهضة يجري تفصيل على مقاس التشكيلين الأساسيين في المشهد البرلماني الحالي، وقد يتمدد التواطؤ إلى ما يطلق عليه “الائتلاف الرباعي”، وقد يمتد شكلا إلى أحزاب أخرى أقل وزنا. ويجمع العارفون في تونس على أن الأحزاب الكبرى تنتج رئيس الحكومة وتريده طيّعا بين يديها منفذا لأجنداتها، على ما يثقل من حركة الملفات ولا سيما تلك المتعلقة بالفساد.

في خطاب الشاهد عزم على تشكيل حكومة سياسية مطعّمة بكفاءات وطنية. في المبدأ لن تمرّ الحكومة في البرلمان إلا إذا رضيت عنها الأحزاب الراجحة، وبالتالي فإن الجسم الحكومي سيبقى مرتهنا لمزاج تلك الأحزاب، وسيحول دون أي فعل طموح لرئيس الحكومة الشاب وفريقه الوزاري إذا ما ذهب بعيدا وخارج حدود الملعب المحدد.

من خارج تونس من يراقب التجربة الديمقراطية التونسية بصفتها استثناء على قاعدة وسمت كافة البلدان التي أصابتها لوثة “الربيع العربي”. يرى أن هذا البلد الصغير يجابه موجات إرهاب تستهدفه، فيما الآلاف من أبنائه يقاتلون في صفوف “الجهاديين” في سوريا والعراق. تصدّت تونس البورقيبية لمحاولات أسلمة البلد، تارة بالحراك الميداني في شوارع البلد، وتارة عبر صناديق الاقتراع. تجنّبت تيارات البلد التصادم وراحت باتجاه الحوار الذي استحق رعاتُه جائزة نوبل للسلام. فيما مثّلت حركة النهضة أعراض مشروع لهيمنة الإسلام السياسي على حكم المنطقة، يواظب زعيمها راشد الغنوشي على مراكمة المواقف التي تعزل الدعوي عن السياسي، وتلك التي تباعده عن التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين.

وبتسليط المجهر على أزمة الحكم تبدو تونس ممسكة بزمام المبادرة لجهة التصويب الذاتي للنظام السياسي الحالي؛ تسير روحية الحكم الراهن في تونس وفق عناوين عامة تحمل اسم وثيقة قرطاج والتي وقعتها تسعة أحزاب وثلاث منظمات نقابية (الاتحاد التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين) تشكّل السقف المواكب للعمل الحكومي، على نحو يحشر الجدل داخل المشهد السياسي الشرعي على ما هو معمول به في الديمقراطيات الكبرى. وتبدو حركة الشارع التونسي متيقظة جاهزة للتدخل كلما كان ذلك ضروريا لتصحيح شطط المنظومة السياسية ووقف بلادتها.

منذ حكومتيْ محمد الغنوشي مرورا بحكومات الباجي قائد السبسي وحمادي الجبالي وعلي العريض والمهدي جمعة انتهاء بحكومة الحبيب الصيد، عاشت تونس عواصف وأنواء، وتجاوزت استحقاقات أمنية كبرى. ومع ذلك بقيت ظاهرة الفساد متصاعدة عصيّة متجذّرة. وإذا ما كانت الظاهرة معممة على بلدان كثيرة في المنطقة، فإن تفاقمها في تونس يتناقض مع واقع الحوار السياسي وغياب العنف الداخلي ولا يتّسق مع حقيقة عدم غياب الدولة حتى في عزّ الأحداث التي اجتاحت شوارع البلد في “ثورة” عام 2011.

قد يصدق بعض الخبراء التونسيين الذين يعتقدون أن بروز الظاهرة واستعصاء استئصالها يعودان إلى تراجع هيبة الدولة وأولوية حضورها في الفضاء العام. على هذا يستنتج المراقب أن التوافق على الحكم بالتراضي لا ينتج حكماً قويا يأخذ مصلحة تونس أولا بعين الاعتبار، بل يعطي الأولوية لمصالح منتجي السلطة ومموليهم. وربما أن الخروج من هذه الحلقة المفرغة يتطلب من الشاهد شجاعة وإقداما يستند بهما على شبكة من الفاعلين من داخل وخارج الوعاء الحزبي لكسر دائرة ارتباط البزنس بالسلطة.

على أن العارفين في تونس يدركون أن ما حصل في تونس عام 2011 ليس ثورة بالمعنى التاريخي، بل حالة اعتراض أعادت توزيعا جديدا للسلطة دون قطيعة مع النظم الاجتماعية التي تغذي تركيبة عالم الأعمال في البلاد. بمعنى آخر فإن شبكة الفساد قديمة وسابقة على ظاهرة الإرهاب، وأن تلك الشبكة تتمتع برشاقة تتيح لها بمرونة ربط أوصالها بأيّ سلطة تتشكل في البلاد. وعليه فإن تونس مازالت تنتظر ثورة حقيقية لمكافحة تلك الظاهرة، ليس بالضرورة بأدوات الشارع التقليدية التي باتت تمقتها كل المنطقة، بل من خلال تصحيح ذاتي تواكبه ترسانة قوانين وتشريعات، لا يجب أن تكون مستحيلة على الشاهد الشاب إذا أراد للتونسيين أن يشهدوا له بأن “صفقة” اختياره تتجاوز الشكل السطحي في ورشة تبديل متسرّع في الأسماء.

يسجل لتونس أن الحدث الذي أبعد حكومة وأتى بأخرى، والذي احتل العناوين الأولى لصحافة العرب هو نتاج فعل محلي تونسي مازال قادرا برشاقة على معالجة المآزق والاهتداء إلى مخارج الخلاص على طريق الوصول إلى النموذج التونسي الأمثل.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات